خواطر عمارة يعقوبيان


كتبت هذه المقالة بصيف 2012
لي جمهور في مصر و لي قراء يستمتعون بكتاباتي، و الذي لا أفهمه...و الذي لن افهمه أبدا هو كيف يتم إلغاء ارشيف كامل لي بِكُلْ همجية من صحيفة كبرى لها اسمها في مصر بعمل لا يمكن أن يُسَمًى إلًا بإنتقام مني بعد أن رفضت بصورة مهذبة جدا أن ادافع عن أديبة مصرية لها مشكلتها مع بعض من المؤسسات مصرية، و تم البحث في مشكلتها في الرأي العام المصري كثيراً في الآونة الأخيرة، فأقول بهذا الخصوص بأنني كأديب حر لأدافع عن ما اشاء و أكتب عن ما أشاء و أن أنشر ما أريد من مؤلفات فالمواقف المهنية بالنسبة لي كأديب مسألة مبدأ و شخصية جدا لن أسمح لأحد بالتدخل فيها أو فرض اي شيئ بخصوصها، و حرب هذه الأديبة ليست حربي الشخصية لكي أكون مجبراً على أخذ صفها، فلذلك بعد أن قامت هذه الصحيفة المصرية بكل همجية بإلغاء ارشيفي أَعَدْتُ نشر العديد من مقالاتي في صحف آخرى رافضاً بكل اصرار اسلوب لوي الذراع التي استخدمته هذه الصحيفة معي، و مع الأسف إن الإعلام الذي تسيطر عليه دنيا المصالح ليس موضع للإفتخار لأنه في الغالب سيكون مُسَيًسْ لصالح جهات خاصة أو أفراد و لا يراعي الإنصاف أو المهنية المطلوبة أو ابسط أُسُسْ الديمقراطية، و هذه المقالة هي واحدة من التي أعيد نشرها و التي تم إلغائها من ارشيفي في هذه الصحيفة شاكرا الله عز و جل على النجاحات التي أحصدها من خلال ما أنشر و طالباً منه أن يُصْلِحْ حال هذه الصحيفة و صُحُفْ مثلها قد تلجئ لهذه الأساليب الغير مهنية للإنتقام مِنْ مَنْ لا يتفق مع سياستها و رأي رئيس مجلس ادارتها،

هَذِهِ الخواطر بِلُغَتِها البَسيطَة تَسْعى لِتَسْليط الضوء على هذا العَمَل الأدبي الرائع كَمَادة درامية، عَمَارة يعقوبيان هي بِنَايَة هادِئَة تَقَع بحي يَكْتَظُ بالسُكَان في القاهِرَة التي خَلَدَ اسْمُها و انْجَازات اهْلِها عَبْرَ عُصور أزَلِيَة دَسِمَة الجُوْهَر في أرقى صَفَحَات كِتَاب التاريخ العربي القديم و الحَديث، و هي عِمَارَة ظَاهِرَها جُدران صَامِتَه و مُؤَلَفَة مِنْ عِدَة طوابق ساكِنَة لِتَتَمَتًعْ بِطول شَامِخْ بَعْض الشيئ فَتُعْطي لِلْنَاظِر أيحاء أوروبي جَميل في وَسَطِ القَاهِرَة بِحَاضِرِها العَصْري و كَأَنًها أصْداء لِلْعَصْر السالِفْ التي بُنِيَتْ بِهِ حيث كان لِلْثَقَافَة الأوروبية وَزْنُها، و في الحَقيقَة مَضى على هذا العَقَار فَتْرَتَان زَمَنِيَتَان في بدء القَرْن العِشْرين السالِفْ و شَهِدَ العديد مِنْ السُكَان الذين مَكَثوا بِهِ لِفَتَرات مُتَعَاقِبَة الى ان قَادَهُ الزَمَنْ الى عَصْرِنَا الحالي لِيَروي لنا قِصَصَ مَنْ يأوي بَيْنَ جُدْرانِهِ العَتيقَة فَيَنْطَلِق خيال الكاتِبْ الخِصْب و قَلَمُه الراقي و يُحيكَ لنا مِنْ نَسيج بنات افْكَارُه اسْطورَة ذَهَبِيَة تُخْبِر عَنْ مزيج غني مِنْ العائلات المَيْسورَة و الفَقيرَة، فَبَعْضُهُم يَخْلِد في الماضي كالعِمَارَة التي يَسْكُن بها و يَكْسي مَظْهَرُه الخارجي امام الناس بِمَجْد اجْدادِهِ مِنْ عَصْر البَشَوات الذين حَكَموا مِصْر في الماضي مِثْل زكي باشا الدَسوقي و كيف دَفَعَتْهُ يُسْر الحال لِلْعَيْش بالخارج فَتْرَة مِنْ الزَمَنْ في ارقى مُدُن الغَرْب و لِيَعود الى القاهرة بَعْدَها و يٌصْدَم بالظروف القَهْرِيَة التي تَمُر بها و التي تَطْحَن بأَهْلِها فَيَغْدو فَريسَة فَراغ بَشِعْ و يَتَحَوًل الى انْسَان قِشْري يَعيشْ على هامِشْ عالم الإنجازات و يَقْضي مُعْظَم وَقْتِهِ بين احْضَانِ نِسَاء الليل و رَشَفَات الكُحول الحَادَة المُسْكِرَة، فَتَحْدُث مَشَاكِلْ كَثيرَة بَيْنَهُ و بين أُخْتِهِ التي تقوم بِدَوْرِها الفنانة إسعاد يونس فَتَتًهِمَهُ بِأَنًهُ يُلَوِثْ إسْم عائِلَتِهِ بِسَبَبْ سُلوكِهِ الغير مُحْتَرَم فَتَدْفَعُها هَذِهِ المَشَاكِل الى حَدْ المَحَاكِمْ لِتَتًهِمَ زكي بأنه غير مُتَزِنْ عَقْلِياً بَلْ لِتُبَلِغَ عَنْهُ الشُرْطَة أيْضَاً بِأَنًهُ يُمارِس الزنا بِمَكْتَبِهِ، و في هَذِهِ الأَثْنَاء نَتَعَرًف على كريستين عَازِفَة البيانو في مَطْعَم راقي، هي بالحَقيقَة صَديقَةَ زكي باشا و حَبيبَتَهُ فَيَزورُهَا مِنْ وَقْت لآخَرْ للإطْمِئْنَان عليها و تَعَوًدَ البَوْحَ بِهُمومِهِ لها فَكْريستين بالنِسْبَة اليه خَليلَتَهُ و حُبْ مُقَدَسْ بَعيد عَنْ الًلهو الذي يُمارِسَهُ مَعْ النِسَاء الذي يَجْلِبَهُنً الى مَكْتَبِهِ، و بِأَوْجِ مَعَارِكِهِ مَعْ أُخْتِهِ يُخْبِرُها بِسِر عَدَمَ الزواج بها رَغْم انًهُ يُحِبُها كثيرا فَيُصَارِحُهَا بالمُشْكِلَة و يقول انًهُ ضَعيف امام نَزَواتِهِ مَعْ النِسَاء لِذَلِك لَمْ يَسْمَحْ لِنَفْسِهِ بالزواج بها خَوْفاً مِنْ جَرْحِ كَرامَتِها و مَشَاعِرِها، و بالواقع بعض سكان عمارة يعقوبيان غريب الأطوار مثل الحاج محمد عزام إذا يمتلك اموال تعجز عن التهامها النيران من وراء تجارة الحرام يغطيها بتجارة السيارات و بالرغم من اليسر في الاحوال لا يستطيع ترك مهنة متواضعة الشأن قديمة كان يزاولها و شبابه بالمهد بعد، و يتزوج مرة ثانية من إمرأة تجسد دورها الفنانة سمية الخشاب عندما يمر بنزوة عاطفية و لكن ليكون قاسي القلب مع زوجته الجديدة لدرجة انه لا يراعي انسانيتها بتاتا و حتى عندما اخبرته انها حامل قام بإجبارها على تنزيل المولود بالإكراه ليمارس أبغض الخطايا عند الله و يقتل ابنه و هو يتكون برحم امه بعد، و يتورط هذا التاجر الكبير الذي يمارس تجارة الممنوع و القسوة الباطشة مع وزير سابق عضو بمافيا سرية تعنى بجباية عمولة من التجار مقابل التسهيلات التي تمنحهم إياها فيدفع ثمن جشعه للمادة بصورة مضاعفة إذ عندما يحاول ايقافهم عند حدهم يلفقون له تهمة لردعه و ينجحوا بجعله يرضخ لضغوطهم، و نكتشف ايضا ان هنالك في هذه العمارة شخصية بإسم حاتم رشيد و يتضح لنا كم أنه ممثل البارع يتقن لعب دور الرجل امام الراي العام و تحت ضوء الشمس الساطع و بين زملائه بالعمل و يواري عيوبه بالشهرة و العمل بألمع الصحف الفرنسية بالقاهرة و لكن تحضن نفسه من الداخل حطام و بقايا رجولة طغت عليها الظروف و بطشت بها بغير رحمة ليحرم حاتم من ان يعيش شخصيته كرجل بالفعل و الحقيقة امام النساء و المجتمع فلا يعلم ما معنى رجل موزون طبيعي الميول، و مثل خفافيش الظلام المتعطشة الى التجوال بعد هروبها من امام شمس النهار و اشعتها البهية حيث تحصل على قسط من النوم الطويل في جحورها المعتمة يظهر من بيته سائرا بالشوارع التي تقطع كحل الليل عنها انارة الارصفة الخجولة الجانبية فقط و يفتش عن مسكين او عابر سبيل يغريه بالمادة ليصطحبه الى بيته بعدها بكل دهاء ليعيش معه اللحظات التي يمليها عليه خياله المريض و المعلول داخل حجرة نومه الخاصة.

أما على سطح هذه العمارة المسالمة يعيش طبق من الناس مختلفين الطباع و المنشأ و الهموم في غرف صغيرة متواضعة تكاد تفيهم حقهم بالعيش الكريم بل ليبقوا بغربة شديدة عن الكرامة نفسها من شدة الفقر فظروف تلك البشر تختلف تماما عن عالم الشهرة و الثراء و النفوذ، بشر يتحطم بكل جبروت تحت عجلة اقتصاد الرأس مالية الغير منصفة الطاحنة و يموتون من قلة المحبة و بطش كرباج العَوَز و الفقر المُروع، بشر يتذوق قطرات الغيث و يجمع فتات الخبز الذي يسقط من موائد الأسياد و اباطرة عصر قرن العشرين بإذلال و إضطهاد و يعاني من قلة تفهم المجتمع من حوله فتعرفنا الرواية على فتاة مسكينة بإسم بثينة تعيش مع عائلتها بهذه الظروف القهرية و حتى عندما قررت العمل لتكسب قوتها بعرق جبينها صدمها واقع الفساد الذي يعبث بسلام المكافحين بشرف لتكتشف ان هنالك ضريبة من نوع آخر ستطلب منها بغير شفقة و رحمة فتجد نفسها محيًرة بين شرفها كإمرأة و الشارع مرة ثانية، فتردخ لممارسة جنسية مقرفة من قبل صاحب النوفوتيه الذي تعمل به و يا لسخرية الأقدار فحتى العمل بشرف لم يعد مقبولا بفلسفة إنسان قرن العشرين الذي تعيش به، و هنالك خطيبها طه الشاب الفقير إبن حارس العقار الذي يعيشون به و الذي يحاول تحقيق طموح محترم بالدخول الى الشرطة و لكن ليتم جرحه بقسوة من قبل عناصر متعالية من صف الضباط بسبب وظيفة والده، و هنالك ضحية ثالثة للفقر و هو رب لأُسرة يغريه حاتم ببعض النقود ليمارس الفحشاء معه و بالرغم من رفضه في أول الأمر ألا ان طعم النقود بحياته يغير رأيه فيظن ان هذا مفتاح لبعض الحلول لليسر المادي و لكن سرعان ما تجتاحه صدمة عنيفة حينما يفقد ولده الرضيع للمرض فيذرف دموع الندم و يتوب من معصية الله و يغادر الغرفة الذي إستأجرها له حاتم ليبقى قريبا منه.

نتوقف هنا عند نقطتين مهمتين بهذا الفلم فعمارة يعقوبيان ليست رواية عابرة للترفيه فقط بل إنها قطعة أدبية هادفة لتسليط الضوء على نسبة فساد عالية تُعاني منها القاهرة بعصر القرن العشرين و هذا الفساد موجود بكثير من بلدان العالم العربي و الغربي، فالفساد بعمارة يعقوبيان يمارسه اثرى الطبقات الإجتماعية و اصحاب المناصب بالدولة في القاهرة فالسعي وراء المال و المرابح هو القلب النابض بعالم الرأس المالية و الناجح هو من يصنع له "قرشين" في هذا العصر الصعب الذي يتسم بالسرعة و التجارات العملاقة و الشطارة في من يجني المرابح و الذي يفشل بإلتقاط هذه النبضات بحياته فاشل جدا بنظر الناس و الفقير يداس عليه بغير شفقة و يستخدمه الغني بشركاته كموظف بأوجور زهيدة في كثير من الأحيان و النساء متاع للعابث في هذه الحياة فالفقر أحد معابد الشيطان للزج بالإنسان في أتون الخطايا و الإنحراف ففي وقت العوز تصبح المادة جنة نعيم بأكملها لأنه بهذه الظروف الحياة أفضل من الموت البطيئ من الجوع و سوء الأحوال...الى أين يا إنسان...الجميل هنا هو ان احداث عمارة يعقوبيان لا تطرح المشكلة فحسب بل تعطينا العبرة من ممشا أبليس اللعين، فزكي باشا بالرغم من انه يقع فريسة غضب أخته إلا ان المشكلة معها تكون بداية تنبيه له بضرورة تغير حياته التي تخلو من جوهر الإنجازات لبلده تماما و لكن التغيير الكبير لا يحدث إلا عندما يتعرف على بثينه التي تأتيه يهدف العمل عندها كمدبر للمكتب، قيتعرفا على بعض و يقعا بحب بعض و يعلم زكي من خلال هذه الخبرة ان الحب ممكن بهذا الزمن الصعب و الفاسد لتستقر حياته أكثر مع بثينه، و تعاقب الحياة الحاج محمد إذ يتعرف على مافيا من نفس جنسه الطماع و تلسعه حينما يرفض التعاون معها لنفهم ان السعي الأعمى و راء المادة و النفوذ قد يورط صاحبه بمشاكل كبيرة، أما حاتم الذي يغدو وحيدا بعد موت إبن صديقه و الذي هجره يخرج الى الشارع بعدها كما يفعل دائما لإلتقاط رفقة وقت الوحدة فوقع نصيبه مع عابر سبيل من الشارع ليقتله و يسرق منزله بعد التعارف لنفهم ان المشي البطال لا يجلب إلا الكوارث لصاحبه.

لعل العبرة الأكثر دسامة بهذه الرواية مع مراعاة ما سلف من الأيضاحات هي قضية طه التي تمثل مشكلة كبيرة فعليا في العصر الماضي و الحالي في وطننا العربي، فطاقات الشباب التي لا يتم إستغلالها بصورة ناجحة داخل بلادها و بوجود الفساد تصبح مضطهدة و مجروحة بكل قسوة، بل تصبح مقهورة و تائهة و غير موجهة بصورة ناجحة فيبدأ صاحبها بالسؤال عن الإمكانيات المتاحة امامه فالسفر غير ميسور عند الكل و بغياب المادة يصبح مستحيل فبهذه الظروف القاسية أين يتجه شبابنا و أين يجدوا الصدر الحنون و التفهم؟ لعل الدين إذا اجاز التعبير هو أقوى ايديولوجية عند الإنسان في خلال شتى العصور الحديثة و السالفة ، و بإختصار أقول لأن الموضوع متشعب و كثير الحيثيات انه لم يكتشف الباحثون و العلماء و المنقبون عن الأثار حضارة إلا و تعتنق معتقد ديني معيًن و هذا لأن طبيعة الإنسان تسعى وراء تفاسير منطقية و خلقها بحال كانت غير موجودة عن سبب وجود الحياة و عن سبب وجوده بها و يسعى لفهم القوة التي تحرك الطبيعة و الحياة من حوله، فالحياة بالنسبة اليه رحلة لها بداية و نهاية و تتحكم بها عناصر القدر تارة و تارة عواقب إختياراته إن أحسن الإختيار لأنه إنسان مفكر ذو إرادة حرة و تتأثر حياته بالحضارة و الثقافة السائدة ببلاده و بإقتصاد الدولة الذي يعيش بها و ظروف عائلته إن كانت ميسورة ام لا و أطباع المقربين منه، و لا ننسى المتغيرات السياسية من حوله و ايضا على مستوى جسدي فالمرض أيضا إن شد الرحال عليه و كيف يتعامل معه و يجد تفسير له و لا ننسى قوى الطبيعة إن هاجت عليه و بطشت ببلاده، لذلك ابرعت الإنسانية بخلق عبر العصور التي سلفت فلسفات تساعد الإنسان بالتأقلم مع هذه الحياة و لتريحه من توهان التفكير و التفسيرات و لتساعده بتوفير الإيجابات لأمور وجوده في هذه الدنيا و اعبائها الثقيلة فأصبحت هذه الفلسفات مدارس تُدَرًس على يد فلاسفة معروفين بأزمانهم و بالأزمنة التي تبعتهم، فللإمبراطوريات الوثنية بالعصور العتيقة مفكريها الذين مهدوا الطريق امام فلاسفة العصور الوسطى ليتبنوها او ليبنوا عليها نظرياتهم الخاصة او لينقضوها ليفتشوا عن غيرها، و لكن على صعيد أعمق من الفلسفة الذي اوجدها الإنسان و التي تبقى ناقصة و بالتالي شهدت تطورات عبر العصور لتلاقي استمرارية او رفض بناءا على معطيات هذه العصور المتعاقبة ايضا خاطبنا الله منذ عصر ما قبل التاريخ بوجوده و ديانات سماوية لها عقائد ثابتة و طقوس مستقرة، و الوجود الإلهي أُطْلِقَ عليه كلمة عقيدة اي حقيقة ثابتة يمكن ان يبنى عليها اصول نظام ديني مع عناصره المتكاملة و تسمى باليونانية (Dogma) ، و آتت هذه الشرائع كاملة مع فلسفة خاصة تقود الإنسان نحو ثوابت ايمانية تريح العقل من التخبط بظلمة التفسيرات الإنسانية الشخصية و الناقصة التي انبثقت من إختبار الفيلسوف الخاص بالحياة و قدرته على استيعاب الحياة في ذهنه و خلق تفسيرات خاصة قد تكون صحيحة ام لا لننطلق من هذا كله الى عقيدة ثابتة لا تخضع لفلسفة خاصة انسانية بل لوجود عملاق اوحي بذاته الى الإنسانية بكل يسر و قدرة.

لذلك حينما يتبنى الإنسان فكر ديني موروث و يصبح هذا الفكر فاعلا بحياته و يصبح هذا الأيمان مع شرائعه من المسلمات و الثوابت و يتحول الى نهج حياة كاملة يتمحور حوله معظم تفكيره و سلوكه فالثوابت عند اليهود التي تقر بوجود التوراة و طقوس الصلاة تؤخذ بأنها حقيقة و أمر إلهي يجب ان ينفذ من دون نقاش اي ان العقيدة و الشرائع انحدرت من وحي إلهي مصدره الله و لا نقاش بها، و كذا الحال عند المسيحين و المسلمين فالسيف في التاريخ عند الإمبراطوريات المسيحية بالغرب و المسلمة بالشرق أخذ طابعا دينيا للأسف و أصبح جزأ من ثقافة الدولة، فالدولة البيزنطية الوريثة بالحقيقة للإمبراطورية الرومانية التي غلب عليها الطابع المسيحي في آخر ايامها شنت حروبها ضد المعتدين عليها و تكللت حملاتها بالنجاح و فرضت سلطتها على أرضها بواسطة جيشها الذي قالت انه استمد حملاتها العسكرية الناجحة من بركات و رضى الله و لأنها مسيحية مؤمنة ليكون الفكر العسكري الذي يؤيده الله جزء من ثقافتها كدولة مسيحية، و رأينا نفس الشيئ يتكرر مع الإمبراطورية الإسلامية إذ اوعز الرسول عليه الصلاة و السلام ببدء ازمنة الفتوحات الإسلامية و التي لم تنتهي ألا عندما ضمت اجزاءا واسعة من أسيا و اوروبا و شمال افريقيا ليصبح ثقافة السيف جزأ من ثقافتها كدولة إسلامية، فدخل نهج السيف و كأنه نداءا إلهيا بسفك دم كل عدو للدولة من الدول التي إلتحم الجيش الاسلامي معها لأن تلك الدول لا تؤمن بالإسلام او إلا بماذا تُبَرًر الحروب الصليبية و إشارة الصليب المرسومة على صدر المحارب الغربي الذي أتى ليعيد القدس الى السيادة المسيحية بعد ان نجحت الفتوحات الإسلامية بضمها الى اراضيها؟ و بماذا نفسر سياسة الفتوحات الإسلامية بالتاريخ إذ تمكنت بواسطتها الدولة الإسلامية فرض سلطاتها بنجاح بربوع واسعة من العالم و نشر الديانة الإسلامية و تقديمها الى شتى بقاع اراضي امبراطوريتها ؟

و إذا توقفنا قليلا عند هذه النقطة بإختصار و لأنه كما أسلفت الموضوع متشعب و يتمتع بحيثيات كثيرة و على ضوء هذه المعطيات التاريخية يتضح لنا ان الثوابت الدينية مربوطة بشكل وثيق بحياة الإنسان المتدين و ان للدولة الإسلامية فكرها الخاص المبني على بعد ديني و لها فلسفتها العسكرية الجهادية الخاصة و ساستها الخاصين بها كدولة إسلامية فلذلك الجهاد العسكري لا مفرة منه عند المسلم و هو حق بسنين الحرب مع عدو الدولة و يمارس مع اي جهة تهدد كيانها الديني و فكرها الديني و سيادتها على اراضيها، و لكن حياة الدولة الإسلامية الجبارة التي امتدت الى بلاد اسبانيا بأوروبا و الى الصين بأسيا توقفت كليا نتيجة تفككها بسبب سلسلة من المشاكل الداخلية و الخارجية و اخذت شكل دويلات خضعت لمتغيرات سياسية و جغرافية كثيرة مع مرور السنين، و لعل بعض من المؤرخين الغرب رأوا في ضخامتها و الطموحات الفردية للقيادات الحاكمة المتعاقبة على ربوعها مع الضغوطات المحيطة من الحضارات و الإمبراطوريات المجاورة سببا في هذا الضعف الذي اصابها مع مرور السنين، فكما اسلفت حياتها كدولة توقفت منذ قرون طويلة .

و طغى الحكم العثماني على منطقتنا العربية لاربعمائة عام حيث ضاقوا العرب و المسيحين منهم اضطهادات شتى فالأستعمار التركي نظر الى هذه البقعة كأنها جزء من أمبراطوريته و بالتالي كان هو سيد عليهم و على ثروات بلادهم فكان العثماني وليد فلسفة الإستعمار التي سادت العالم في هذه الحقبات الزمنية و عند انتهاء هذا الحكم ترك المنطقة العربية بضعف كلي عسكريا و سياسيا فستزف قواها كليا، و بشكل عام و خلال حقبات زمنية مختلفة كانت منطقتنا العربية مع مناطق واسعة من العالم مقسمة كقالب الحلوة بين يدي الدول الاوروبيا المستعمرة فحل الإستعمار الفرنسي على مصر و لبنان و بعض الدول الإفريقية التي تتكلم الفرنسية لغاية الآن و الأيطالي في شمال افريقيا عند ليبيا و غيرها من البلدان و الإستعمار البريطاني حل عند دول الخليج العربي، و لا ننسى ان المملكة البريطانية سماها المؤرخون بالمملكة التي لا تغيب عنها الشمس إذ كانت مناطقها التي تستعمرها تصل الى الهند و الباكستان و كل هذا تم بفترات متلاحقة و كأنه سباق مع الزمن بين الدول الأوربيا لقسمة العالم بأكمله، و كان لأسبانيا نصيب بهذا السبق إذ لا عجب ان كل الدول في امريكا الجنوبية تتكلم الاسبانية الى الآن منذ هذه العصورة القديمة ما عدى البرازيل حيث تتكلم اللغة البرتغالية بسبب استعمارها من قبل البرتغال قديما.

فترك كما اسلفت الإستعمار التركي بلادنا بعد خسارته في الحرب العالمية الأولى بحالة ضعف لتستلمها الإستعمارات الفرنسية و البريطانيا حيث دخلت الثقافات الأوروبية الى بلادنا بأزيائها و كتبها و فلاسفتها و سياساتها فإندمجت هذه الثقافات بالشارع العربي و تقولبت ثقافتنا و انظمتنا العربية السايسية على مثال مستعمرينا فرأينا الديمقراطية تدخل بلاط حكامنا و اصبحت السياسة مدنية بمعزل عن الدين و انتشرت الكنائس بصورة أكبر إذ تركت هذه المجتمعات بصمتها المسيحية في ثقافتنا الاسلامية بسبب هذا الإختلاط و أصبح مجتمعنا مدني و قوانيننا مدنية بعيدة عن القوانين الاسلامية التي كانت تطبق وقت الدولة الاسلامية و العثمانية، و بمنتصف القرن العشرين الماضي ابتدأت حركات تحريرية ضد الهيمنة الأجنبية على عربوتنا فرأينا بلادنا العربية تستقل عن هذه الإنتدابات الغربية و اصبح لكل دولة عربية كيانها الخاص و تمثيلها الدبلوماسي المستقبل و حافظت هذه الدول على هويتها المدنية أكثر من الاسلامية ما عدا بعض من الدول المعروفة نتيجة ظروف الهيمنة الاوروبيا.

و لكن المشكلة الكبرى تكمن في ان العمل على استضعاف قوى المنطقة العربية بهذا الشكل من قبل الدول الأوروبيا و الأمريكية و التي لها مصالح إستراتيجية و سياسية و اقتصادية في المنطقة العربية سبب شعورا بالقهر و الضعف لدا الشارع العربي بصورة عامة، و هذا أخطر بكثير مما يظنها البعض إذ ان زرع الكيان الصهيوني في وسط الدويلات العربية بواسطة القوة و طرد الفلسطينين من اراضيهم لهُوَ سطو على منطقة لطالما خضعت للسيادة الإسلامية و العربية كما استفزاز مشاعر المسلمين و العرب من وقت لآخر من قبل هذه الدولة الصهيونية بسفك دماء الفلسطينين و المدنيين العزل السلاح و دخول مساجد المسلمين بصورة همجية يؤجج غضب المسلمين و نخبة من المتعصبين الذين هم وريثوا الفكر الجهادي للدولة الإسلامية و للدين الإسلامي، فانبثقت من هذه الصراعات المنظمات العسكرية الجهادية كالتي تسمي نفسها القاعدة و حزب الله و غيرها من الذين يؤمنون بأن الحل لهذا الهجوم على الهوية الإسلامية هو حرب يجب شنها على مصالح اعدائهم و لا يسعنى إلا ان انوه ان هذه الجماعات لا تحرك الفكر الجهادي بل الفكر الجهادي هو الذي يحركها فلذلك لها تابعين فشتى بقاع الدول العربية و اصبح هذا الجهاد الفكري الذي تم تحريكه بعد فترة من السكون حل يتصالح به بعض من المتعصبين مع ذواتهم بأن الهوية الأسلامية لم تفقد و ان الأسلام موجود و ان اعادة هيكله الدولة الأسلامية ممكن من جديد و ان الدولة الأسلامية لم تنتهي هويتها و مجتمعها قادر ان يدافع عن نفسه، فصدمة الأبراج الذي أوقعها تنظيم القاعدة في أمريكا معناها اننا كمسلمون متشددون نستطيع ان نأخذ المعركة الى اراضيكم و نحن قادرون على ادارتها بعيدا عن ترابنا،

أكبر أثبات على تجاوب المجتمع الإسلامي مع هذه النداءات الجهادية بفصائلها المختلفة و مدارسها المتنوعة شعور مجتمعاتنا العربية بالراحة تجاه ما حققه حزب الله في وجه اسرائيل، فلأول مرة تنجح حركة دينية فكرية أصغر من حجم الدولة في صد جبروت آلة الدمار الإسرائيلية و ربما يكون حادثة إسقاط البرجين في أمريكا قد رفعت من معنويات هذه الفصائل الجهادية لتقف كجدار متين لتحمي أرض جنوب لبنان من اية تحركات قتالية، و رأينا ردة الفعل المصرية تجاه من كان أكبر حليف لأمريكا في منطقة الشرق الأوسط و الذي رعى الفساد و المصالح الأمريكية في المنطقة لفترات طويلة فبعد ان نجحت الثورة بإسقاط هذا النظام تنفس المجتمع الصعداء و حين اتيحت له الفرصة توجه للتصويت البرلمانية و صوب انظاره نحو الاحزاب الاسلامية التي تمثل الحل له بعد ان اضطهدته الدولة المدنية و رعت الفساد و بقية حليف سياسة غربية مارسة الأستفزاز عليه و على المشاعر العربية و الاسلامية فهل هذا ينذر بقدوم و تجمع عناصر الدولة الاسلامية من جديد في منطقة الشرق الاوسط؟

شعرت بضرورة التنويه عن هذه النقاط لأن للذي يتابع قصة طه في عمارة يعقوبيان يعلم تماما لماذا تلتهب غضبا هذه الجماعات ضد الدولة ايام حكم الرئيس محمد حسني مبارك و لماذا تستقطب الشباب لتستخدمهم بالمضي بمخططاتها الدينية و السياسية، فطه توجه لهذه الجماعات الإسلامية بعدما تعرض للإذلال من قبل ضباط الشرطة المصرية و رفضوا ان يدخل الى صفوفهم الأمينة، فشعر بأن هذه الجماعة تعطيه الحق و الشرعية للتنفيس عن غضبه، و تلقى التثقيف الديني على يداها و بالتالي ابتدأ بالإنتقام لكرامته المجروحة عن طريق المظاهرات و لكن ليرتطم بكمين داخل الجامعة الذي يدرس بها و يتعرض للسجن و الضرب و الانتهاكات الجنسية الجارحة، فعَظُمَ بقلبه الحقد ضد الدولة و لجئ للشيخ الذي قاد خطواته الأولى داخل هذه الجماعة المتشددة و عندما عبر له عن رغبته بالإنتقام وفر له اللجوء لمخيم عسكري كبير تديره هذه الجماعة و قاموا قادته بضمه الى صفوفهم و تزويجه بإمرأة شابة و دربوه على السلاح و سرعان ما حانت ساعة الصفر المنتظرة، فذهب الى حيث يعمل الضابط الذي ذله ايام السجن و نال مراده بالإنتقام و قتله لكن ليستشهد و يموت مع عدوه.

السؤال الذي يطرحه هذا الفلم عن طريق قصة طه هو ما هو آخرة هذه الدولة التي تقف امام من يحاول قلب موازينها و يجعلها إسلامية سياسيا و اجتماعيا بالكامل؟ فيستخدم الفلم قصة طه الإنسانية للتنويه عن هذه القضية المهمة، و صبحان الله إذ جاوبت الثورة المصرية فلم عمارة يعقوبيان و زلزلت توباعها النظام الحاكم السالف و اطاحت به و بعناصره و للمتابع لهذه الاحداث سيرى ان الأحزاب الإسلامية التي تم انتخابها لمجلس البرلمان خير برهان لهذا، أنا أظن ان كان هنالك مليون مقموع و مقموع مثل طه في ميدان التحرير من اسلام و مسيحين مسلوبي الكرامة في عهد الرئيس السابق ينادون بالعدل و الحرية و الكرامة و حقهم بالعيش الكريم و لكن هل يحمل لهم المستقبل الأفضل من الماضي؟

هذه الأحزاب الإسلامية قادمة بهيكلة إسلامية كاملة للبرلمان و الدولة و المشكلة ان المصريون الذين انتخبوها لا يدركوا ان هنالك فرق بين الدولة الأسلامية التي سيتقدم للجلوس بكراسي قيادتها مسلمون متشددون و بين مجتمع اسلامي كامل بعيد عن الحكم السياسي، و المشكلة ان الفكر السياسي بالدولة الإسلامية متوقف كليا منذ اربعمائة عام اي عندما ابتدأ الحكم العثماني بالدول العربية التي تبعت لخارطته فالحكم العثماني بالرغم من انه غير عربي هو أخر حكم قوي تمتع بالطابع الإسلامي؟! و بعد الحرب العالمية الثانية عندما اتجه المجتمع الدولي بعد كارثة هتلر الى تقوية الحوار بين الدول ليضمن عدم عودت هيمنة الدول بصورة امبريالية على بعضها البعض و التي كان انهيار امبراطورية هتلر و حليفه الايطالي و الياباني ختام لهذا العصر و من ثم ليبتدأ العالم عصر جديد في منتصف القرن الماضي بتأسيس الأمم المتحدة و التي تعتمد مواثيقها على انفتاح الدول على بعضها البعد و تسهيل حركة التجارة العالمية و على مراعاة حرية الفرد و الحرية الدينية داخل الدول و منع التعصب و الإرهاب و قتل النفس الخ...فما موقف الاحزاب الدينية المتشددة من كل هذا فالفكر الذي نراه من بعض من الشحصيات الدينية الحالية بعد الثورة المصرية لا يريح، فبعض هذه الشخصيات ابتدأوا تصريحاتهم بأنً معايدة المسيحي حرام دينيا و هذا غير مقبول بمجالس الأمم المتحدة و بعالم السياسة و الإقتصاد الذي يربط الدول فهنالك بروتوكولات معيًنه يجب ان تراعى فمجالس الامم المتحدة تنادي بالحوار الديني و الحرية الدينية و احترام الدول لبعضها البعض و احترام الحرية الشخصية و الدينية للإنسان، فعلى ضوء كل هذا هل سنرى نضوج أكبر من هؤلاء الشخصيات؟ هل هذه فتاوي رسمية فإذا كانت كذلك تخيلوا معي ما سيكون موقف مكتب سفير مصر في الامم المتحدة عندما لا يبعث بالتهنئات الى السفراء الباقين في الأمم المتحدة بمناسبة عيد الميلاد او اعياد القيامة المسيحية مثلا و السبب ان جامعة الأزهر وافقة على فتوى تمنع المسلم من معايدة المسيحي؟! ألا يعلم هؤلاء القوم المتعصبين ان للسياسة اصولها و ادابها فتخيلوا الموقف المحرج لمصر من فتوى غير ناضجة من الممكن ان تسبب أزمة سياسية لها مع باقي الدول فالعالم الإسلامي يجب ان يراعي انه لا يعيش بهذه الحياة لوحده بال هنالك اربع مليارات من البشر ينتمون الى شتى انواع المذاهب و الديانات يتوقعون من العالم العربي ان يتعاملوا مع المجتمع الدولي بكل هدوء و يُسر و احترام بالرغم من الضغوط المحيطة فهل الأزمات السياسية بسبب التعصب سيكون من نصيب مصر بعد الثورة؟ هل تكفير الدول التي لها تمثيل دبلوماسي مع مصر لأنهم مسيحين او بوديين او هندوسيون سيرمي بمصر في بركان المشاكل؟ ام هل ستتمتع هذه الاحزاب التي ستدخل المعترك السياسي قريبا الى البرلمان بالنضوج المطلوب ليكونوا واجهة منفتحة حسناء لبلادهم و لا يعتمدوا على تكفير الآخر بناءا على ديانته و سيتعاملوا بيسر أكثر مع البلدان التي تتمتع بعلاقة طيبة مع مصر؟ أسئلة كثيرة كان يجب ان يفكروا بها المصريون قبل ان يصوتوا لهذه الاحزاب و ربما الغد سيحمل لنا الإجابة على هذه الاسئلة،



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات