قراءة بلاغية لحديث كل محدثة بدعة


البدْعةُ الحَسَنةُ
قد اقرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي اضاف الى الصلاة ذكراً محدثاُ بعد الاعتدال من الركوع وفي رواية لاستفتاح الصلاة :
( روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه:
أن رجلاً جاء، فدخل الصف وقد حَفَزَهُ النَّفَسُ فقال:
" الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه "؛ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها؛ أيهم يرفعها ".
لعظم الثواب لاحداث هذه العبارة!! يريد كل منهم أن يسبق صاحبه في كتابتها.. وعندما سأل رسول الله "من صاحب الكلمة؟ ". فسكت، ورأى أنه هجم من النبي صلى الله عليه وسلم على شيء [كرهه]. فقال: "من هو؟ فلم يقل إلا [صوابا]".
والشاهد هنا ان الذكر له اصل مشروع في الدين لذلك بُنيَ هذا التصرف على هذا الاصل … ولم يكرهه النبي بل قال عنه [صوابا] فضلا انها تم زيادتها في عبادة..!! فهو بلا شك اشارة من النبي لقبول مثل هذاالفعل اذا وافق اصلا من اصول الشريعة ..!!

فلولا لم يكن كذلك المفهوم النبي لما نهى عن شيء وأتى بمثله!! حاشاه بل ذلك يؤكد ان البدعة بمعنى الاحداث هي الضلالة كما سأبين تالياً:

أقول :
كل مفهوم يبقى عى عمومه في حال عدم وجود صارف يصرفه لذلك ..

(أولا) الفعل بين الدلالة على المعنى والدلالة على الزمن
حذر صلى الله عليه وسلم من الإحداث في الدين فقال:
((إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة))
(ا) فعل (أحدث) : دلالة الفعل على المعنى بانه اوجد وأنشأ الفعل من العدم.. وفعل على الحقيقة بصيرورة جديدة! وفي لسان العرب قال :كونُ شيء الى الوجود ولم يكن وجاء في المعجم :حدَث الشَّيءُ: كان جديدًا .
قال الله تعالى {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} استخدم القران الفعل احدث في معنى انتقال للمعنى ..قال ابن عاشور في تفسيره:وهذا الأمر هو تقليب القلوب من بغض إلى محبة ، ومن غضب إلى رضى

كما حده سيبويه في "الكتاب" قال:- وما يكون ولم يقع من حيث دلالة الحدث على الزمن
بخلاف الفعل (ابدع) في ايجاد فعل على ابتكارغير مثال سابق من حيث الدلالة على المعنى
لذلك اذا كان على غير مثال سابق فانه يوصف بالمحدث كما وصفه النبي وهذا يلزم منه انه اذا كان على غير مثال سابق فن الفعل ابدع وابتدع يبقى على حاله ويجرى على ظاهره الذي وضع له :
(ب) ارتبط مفهوم الفعل أبدع بمفهوم جمالي ويعني الروعة أي: صار غايةً في صِفتِه !! ونقول مبدع من الابداع ..تفكير إبداعيّ: خلاَّق أصيل.
ونقول في علم البلاغة العربية : علم البديع: أحد علوم البلاغة الثلاثة (المعاني والبيان والبديع) والمحسِّنات البديعيَّة تعنى بتحسين وجوه الكلام وتزيينه

(ج) ارتبط فعل [احداث] بامر مذموم في الشرع وهو ناقض لامر شرعي .. احدث اي اخرج ريحا ويتم تطهير الفعل بالوضوء : "من أحدث فليتوضأ"
وارتبط في الفتن..فنقول احدث فتنة .. بينما لا نقول ابدع فتنة ...
بيد أن فعل ابدع ارتبط بمفهوم جميل وهو الابداع والجمال { بديع السموات والارض } لذا وجب أن يكون إحداثه للسموات والأرض إبداعا!! وتتجلى هذه الصفة بالجمال لكل مكونات الكون من مخلوقاته سبحانه وتعالى..

فبالمقابلة بين الفعلين في السرد السياقي للحديث اثبت ان القرينة التي تصرف دلالة الفعل "ابدع" الزمني الى انتقال بالمعنى الى الدلالة على وجود فعل اخر يومئ لوجود هذه الاشارة التي تقلب الفعل ابدع الى احدث بمعنى ايجاد الفعل على الحقيقة من العدم بصيرورة مستقلة تامة
وليس كما يظنه البعض بدلالة مستقلة ليخدم فكرة الغاء تقسيم البدعة الى حسنة محمودة وسيئة مذمومة كما جرى عليها الائمة المجتهدون..

(د) والخلاصة ان ارتباط الفعل "احدث" ضمن السياق في متن الحديث يلتصق بالفعل ابدع بدعة انه اعمال على شيء لم يكن اي امرا جدا بيد انه ينفصل المفهوم اذا لم يكون جديدا اي يعتمد على مثال سابق ونشير له في الفقه على اصل من الاصول الشرعية ..

(ثانيا) دلالة تضمين الفعل "احدث" بالفعل "استن"
استغرب من البعض ومن تجرئه على انتهاك معنى الفعل وتجريده من المعنى الحقيقي الذي وضع له بدون صارف او قرينة تدعوه لذلك نصرة الى مذهب أوخدمة لفكرة ما ! عند الحديث حول الفعل "سنّ" وإلحاقه بفعل "أحيا"..! وتضمينه لمعنى فعل اخر يختلف كليا عن معنى الفعل الاول وتأويله على هذا الاساس يكون تعسفا لا ضرورة له.
في هذا المبحث مدار كلامنا حول حديث له أهمية قصوى في تقرير بعض المسلمات في العقلية السلفية المعاصرة التي من ميزاتها الانتقائية في الاستشهادات من كتب الائمة والفقهاء بما يخدم منهجهم الاقصائي بدءا بالتبديع ومرورا بالتسفيه والتجهيل للمخالف وانتهاءً بالتكفير!!
هذا الحديث : صححه الالباني في صحيح الجامع :
"من استسن خيرا فاستُن به كان له أجره كاملا و من أجور من استن به و لا ينتقص من أجورهم شيئا و من استن سنة سيئة فاستُن به فعليه وزره كاملا و من أوزار الذين استنوا به و لا ينتقص من أوزارهم شيئا ."
وورد الحديث بصيغة اخرى:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» . رواه مسلم
(1) محورنا الاول: في الحديث استعمال الفعل سن ( مجردا ومزيدا) هل يفيد ويوحي بشيء ..
القاعدة النحوية تقول اي زيادة في المبنى تعني بالضرورة زيادة في المعنى ..وإلا ما فائدة الزيادة ان لم تشير بمعنى اضافي زائد عن المعنى الموجود اصلا في الفعل او اي تركيب لغوي اخر..
وبعض النحويين ألزمنا بقوله انه لا فرق..!! وهذا لا يخلو من تكلف وذلك لضعف الادلة المنطقية التي تدل على ذلك.! والرد على ذلك ان اتحاد المعنى بين الفعل المجرد والمزيد هو اتحاد داخلي في أصل المعنى كما قال الامام الألوسي [1]-رحمه الله- وقاله الرضي في الشافية[2] وأكثر المفسرين والنحويين يرون الفهم البلاغي للزيادة في مثل هذه المواضع تدل على المبالغة؛اي ما يوجد علي سبيل الاكثار،وهو الصواب . فالاصل هو للمبالغة والتي توحي بدورها الى ان العملية شاقة استدعت جهدا ووقتا وعناء حتى يقوم الفاعل باعمال وتحقيق الفعل على الوجه الحسن..!
فالاصل في صورة اضافة الثلاثي الهمزة والسين والتاء "استـ" الى مبنى الفعل "المجرد الثلاثي" هو للمبالغة ..والمعاني البلاغية الاخرى لا تنفك عن كونها حالة من حالات المبالغة في المفهوم البلاغي.
فالزيادة لافادة "الطلب" مثل استغفر .. طلب المغفرة على وجه التكرار!
ولمعنى "الحسبان" مثل استغرب .. فاذا دققنا في الفعل بلاغيا تجد انك لن تصل الى مرحلة الاستغراب من اي شيء الا حين الوصول الى حد التكرار ! فانت –أكيد- لن تستغرب من شيء حدث لاول مرة
ولمعنى "التحول" مثال استحجر الطين . فتحول الطين الى حجر قد مر بأكثر من مرحلة من الجفاف حتى تبخر منه الماء فاصبح حجرا !!
ولمعنى "اتخاذ" مثل استوطن . اي اتخذه وطنا . ولن يتصف بهذه الصفة الا من تكررت اقامته في بلد ما ثم اصبحت لطول المكوث به موطنا له بصفة دائمة..
ولمعنى "الوجدان" استكرمت .. اي وجدته متصفا بصفة الكرم. لن تمنحه صفة الكرم من اول مرة! فلولا انك وجدته بهذه الصفة الثابتة وأنه كررها أكثر من مرة لما وصفته بالكريم
وبعض النحويين مثل القزويني قال بالافراط والغلو بالصفة يؤدي الى المبالغة
قاذا تقرر ذلك فانه يحول جوهر الفعل على سبيل الاكثار بصيغة المبالغة لا على سبيل المغايرة الى معنى اخر
ولا يحق لاي كان ان يحمل فعلا ما على فعل اخر بدون صارف وقرينة
كاستعمال استن مع المسواك فيمكن القول عنده بمغايرة للفعل عن المعنى الاصلي وهو استاك اي استعمل المسواك..
لذلك استعمال صيغة الفعل المزيد للفعل "سن" يؤكد الفعل بوجوهرة ومظهره ولا مجال لانتهاكه من معناه الاصلي او عدم اعماله على حقيقته فهو :

سن: كما جاء في لسان العرب بمعنى: اوجد الطريقَةَ وسلكَها،ثم سار فيها
واستسن مبالغة تعني ذات الفعل وهي أشد من مفهوم الصفة الثابتة والدائمة..

(2) المحور الثاني استعمال حرف الجر " في" وهو من حروف المعاني
تأمل موقع " في الاسلام" كما وردت في الحديث تجد انه لا يمكن قبول مبدأ تناوب حروف الجر في

هذه العبارة ويجب بقاؤه على موضعه الاول اي بمعنى : داخل الاسلام كون تحويل الفعل ممتنع عن تأويله بمعنى اخر.. كما ذكرنا انفا. ولا يمكن تضمينه فعلا اخر.

فإن تناوب حروف الجر يحتاج الى قرينة سواء لفظية او معنوية تصرف التناوب الى المصداقية والا كان تعسفا وانتهاكا لما وضع له

كما في حرف الجر "في" و "على" فقد تناوبا في الايتين

(قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ) بمعنى على الارض

(ولأصلبنكم في جذوع النخل) بمعنى (على)

(3) المحور الثالث : ورود عبارة : " ومن سن في الإسلام سنة سيئة" نفي ثالث لتضمين معنى سن و استسن لفعل أحيا

فكل سنن الاسلام وما ثبت من سنته الصحيحة قولا او فعلا هي سنن هدى لا يقبل عقل ان تكون سيئة وتركها الرسول ولم يعمل بمقتضاها لانها كذلك -والعياذ بالله-

لذلك هذه التاويل الفاسد الذي يؤدي بك الى المهالك.. فالله قال: "وما ينطق عن الهوى" وفي الحديث الصحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص ان الرسول صلى الله عليه وسلم أشار الى فيه وقال: "والذي بعثني بالحق لا ينطق هذا اللِّسان إلا بالحق".

وعليه من هذه الاضاءات البلاغية للحديث انه يوجد بدعة حسنة بشرط عدم مخالفتها لاي اصل من اصول الاسلام العظيم

والله تعالى اعلم

(ثالثا) أقوال الائمة :

(1) قال الامام ابن رجب: «والمراد بالبدعة ما أحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة، وإن كان بدعة لغة»

(2) قال الشافعي : «المحدثات ضربان؛ ما أحدث يخالف كتابًا أو سنةً أو أثرًا أو إجماعًا فهذه بدعة الضلال, وما أحدث من الخير لا يخالف شيءًا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة»

(3) الغزالي رحمه الله في كتابه احياء علوم الدين : ليس كل ما أبدع منهيّاً عنه، بل المنهيّ عنه بدعة تضاد سنّة ثابتة وترفع أمراً من الشرع

(4) ابن الأثير في كتابه النهاية : لبدعة بدعتان؛ بدعة هدى وبدعة ضلالة، فما كان في خلاف ما أمر به رسول الله فهو في حيز الذمّ والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب إليه وحضّ عليه فهو في حيز المدح

(رابعا) وبعض الشواهد تدل على ذلك منها:

(1) ما نعرضه على القران الكريم .. فقد استعمل لفظة "كل" مقيدة في موضع قوله (تدمر كل شيء بأمر ربها ) .. وهي لم تدمر هودا ومن كان آمن به!!

وتحويل عبارة"بأمر ربها" الى عبارة :ما أمرها الله" لا يخلو من التكلف الزائد اذي يحتاج الى دليل لغوي اصلا حيث التحوير والتأويل هذا على الاغلب لغويا ولا دخل له فيما نقل من تفسيرات عن الصحابة!!

(2) كذلك تضعيف عبارة "كل ضلالة في النار" توحي بأن هذه الضلالة بـ: ليست في النار حسب علم المنطق !! لذلك يعتبر شاهدا اخر على ان الضلالة مقيدة وليست على اطلاقها وبالتالي ان "كل" مخصصة وليست على العموم



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات