التربية والتعليم كأداة لمحاربة الإرهاب


تتعدد الدوافع التي تضطر الشباب الى الانضمام الى الجماعات المتطرفة، وهي تمثل في مجموعها مناخ إنتاج العنف ضد الدولة والمجتمع، وتتمثل هذه الأسباب في غياب العدالة الاجتماعية، وشيوع خطاب التكفير، وتفكك الروابط الاجتماعية، وتراجع خطاب الإصلاح الديني، وضعف دور المؤسسات الثقافية، وغياب المشروع القومي.

يمثّل العقل المتطرف الثمرة المرة لميراثين ثقيلين يجثمان على حاضر مجتمعاتنا وثقافتنا: ميراث ثقافي تكفيري حفل به تاريخ الإسلام، وناهضته تيارات العقل والاجتهاد والتسامح، وميراث اجتماعي – اقتصادي- سياسي معاصر من الحيف والتهميش والاستبداد، كانت مجتمعاتنا عرضة له، واجتمع الميراثان معا في تكوين ظواهر اجتماعية شاذة وكارثية عدة منها ظاهرة الجماعات التكفيرية.

كيف نواجه التطرف؟

هناك إجابة تقليدية تتمثل في استخدام الوسائل الأمنية والقمعية والسياسية والتي ثبت عقمها، فكل الوسائل الأمنية والسياسية يمكن أن تكون فاعلة على المدى القصير، إلا أنها على المدى الطويل لا تنجح في استئصال العلة الأساسية المنتجة لهذه الظاهرة التي عادة ما تكون متصلة بجذور ثقافية من خلال تأويلات مغالية للنصوص، وبجذور اجتماعية ناتجة عن ارتفاع معدلات البطالة، والأمية، وفشل مشاريع التنمية وغيرها من المسائل المتعلقة بغياب الحريات والعدالة والمساواة بين المواطنين.

إنّ مشكلة التطرف والإرهاب والعنف تنشأ من أسباب اجتماعية عميقة، لا يمكن القضاء عليها بتصفية أعراضها، وإنما باستئصال الأسباب والجذور التي ولدتها وأنبتتها. وهكذا ما لم تتقدم مجتمعاتنا العربية في السعي نحو إنتاج نظام سياسي حديث يكفل حقوق المواطنة، والحريات العامة، والمشاركة السياسية، وما لم تهتد الى وضع حد للفساد، وهدر الثروة والمال العام، وتحقيق التنمية المتوازنة، والحد من الفوارق الطبقية الفاحشة، عبر إعادة توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، فلن يكون في الوسع إنهاء ظاهرة كبيرة وخطيرة مثل ظاهرة التكفير وجماعاته السياسية والمسلحة.

وفي تقديري أن من أبرز الأسباب إضافة لكل ذلك هو اختراق الفكر المتطرف لنظام التربية والتعليم بكل مؤسساته. وهو اختراق يساعده أن التعليم في بلادنا لا يزال في غالبه يقوم على التلقين وليس على الفهم والتساؤل والحوار بين الأفكار، أي أنه يقوم بصياغة العقل الاتباعي لا العقل النقدي، وهذا ما تقوم بترسيخه بصورة مباشرة الأنظمة المستبدة، لان العقل الاتباعي يتكيف مع مفاهيم الطاعة والانقياد، أما العقل النقدي فمتمرد ومتسائل بطبعه.

لا شك أن المؤسسة التربوية العربية قد التقطت بشكل أو بآخر جرثومة "التعصب" وآفة "التطرف" الديني، وهذا معناه أن المؤسسة التربوية بدلاً من أن تساعد المجتمع العربي على المواجهة العقلانية فإنها أضافت الى مشكلاته تحديات جديدة.

وعلى المستوى الثقافي والتربوي فان حصار هذه الثقافة وتصفية وجودها يتطلب عملاً ثقافياً طويل المدى، يبدأ من البرامج التربوية والتعليمية في المدارس وخاصة في مواد التربية الإسلامية، والتربية الوطنية، التاريخ، واللغة العربية على وجه الخصوص، والتي يتأهل بها وعي الناشئة.
والسؤال المطروح في هذا المجال هو : كيف يمكن للمؤسسة التربوية العربية أن تعزز قيم التسامح في مواجهة التعصب والتطرف في مجتمعات لم تتعزز فيها تقاليد الديمقراطية بعد، خاصة تقاليد الاعتراف بالآخر، والتمثيل الشعبي، ومشاركة المجتمع المدني، حيث تغيب عملياً مبادئ حقوق الإنسان، بل والأطر التنظيمية الناظمة للتعددية السياسية في المجتمعات العربية.
والمدرسة العربية هي انعكاس لكل ذلك؛ ففيها مبدأ الطاعة العمياء حيث تتم إعادة إنتاج قيم ومعايير المجتمع التي تحافظ على وضعية القهر الاجتماعي. وتتكامل المدرسة مع أساليب التنشئة الاجتماعية السائدة لتبني منظومة قيم متكاملة تكمل المناخ التسلطي العام، حيث يفرض الآباء على الأبناء أنماط سلوكهم وحركتهم ولا يسمح لهم بإبداء الرأي أو الاعتراض.
إن التربية يمكن ان تلعب دوراً محورياً وفي غاية الأهمية والموضوعية في قيام منظومة آمان قيمية ترسخ قيم التسامح والدعم النفسي والتعزيز والمساندة والتفاهم والحوار بين أطراف العائلة، خاصة بين الآباء والأبناء، والتربية على الحوار والاعتراف بالرأي الآخر والحق بالاختلاف، وهذا هو الجوهر الأخلاقي للدين الإسلامي الحنيف.
إنّ التطرف والتعصب ظاهرة مرضية، وأفضل علاج لها هو الوقاية الصحيحة، والوقاية الصحيحة يجب أن تركز على التعامل العقلاني الذي يستهدف تصحيح الاختلالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وإشاعة الفكر النقدي والمشاركة في كافة مجالات الحياة وبدءا بالمؤسسة التربوية.
لا مهرب من إقرار سياسة تعليمية تقوم على مبدأ التربية على قيم التسامح،والمواطنة، والعقل، والتفكير الحر، وعدم تقديس نصوص القدامى أو رفعها من مرتبة الرأي الى مرتبة النص الديني الملزم، ونبذ التعصب، واحترام الرأي الآخر، ومواجهته بالحوار والحجة، ونبذ العنف بما فيه العنف اللفظي. ولا بد من أن تجد هذه المنظومة من القيم مكانها في البرامج الدراسية المقررة في المدارس والجامعات، من أجل أن تتشبع بها الأجيال الجديدة والقادمة، وتتحلى بها في التفكير والسلوك.
ولا بد من العمل على تشجيع الأسر على تبني أساليب التربية الحديثة التي تحض على النقاش، وحرية المبادرة، والتفاهم المشترك، وإتباع المنطق العلمي في مجريات الحياة اليومية كافة، والتعامل مع الآخرين.
ولا بد في الوقت نفسه من أن يصار الى إصلاح منظومة تكوين المعلمين والأساتذة، وتمكينهم من التأهيل العلمي والتربوي الحديث لتأدية أدوارهم التعليمية على النحو الأمثل. كذلك من الضرورة بمكان القيام بمراجعة نقدية للمناهج الدراسية، من خلال لجان من الباحثين في علوم التربية، بحيث يتم تخليصها من كل ما يتعارض مع العقل والقيم العصرية.
إنّ ديمقراطية التعليم تستلزم ضرورة الربط بين التخطيط التربوي والتخطيط الاجتماعي الشامل، القائم على استراتيجية تنموية تشاركية، للانتقال بالنظام التربوي – أفعالاً وممارسات ومضامين- من وضعية إسهامه في إعادة إنتاج التمييز التربوي والاجتماعي، الى وضعية يتجه فيها أكثر نحو ديمقراطية التعليم من جهة، وتدعيم المشروع الديمقراطي والتنموي في المجتمع من جهة ثانية. وعلى ضوء ذلك فان أوضاع التردي والتدهور التي يعيشها نظامنا التربوي العربي يشير الى أننا ما زلنا بعيدين عن جعل مؤسساتنا التربوية قادرة على أن تكون دعامة للبناء الديمقراطي كمشروع مجتمعي وحضاري عام.
ويظهر ذلك واضحا في ظهور بعض الأعراض السلبية على بنية وتفكير الإنسان العربي، وانعكس ذلك على سلوكياته، فاتسمت بالفردية والسطحية في التفكير، وضعف الرغبة في العمل والإنتاج، وقلة الانضباط، وانتشار مشاعر اللامبالاة وعدم تحمل المسئولية، هذا فضلا عن أحادية الرؤية في تفسير الأحداث والدوافع الكامنة ورائها. وفي اغلب الأحوال لا مكان لحسن النية والحق في الاجتهاد عندما يكون التعامل مع الآخر من موقف الاختلاف في الرأي والتباين في تقدير الظروف
إنّ المدرسة هي المعمل الذي يصنع فيه المواطنون، وعلينا أن نقرر أي نوع من المواطنين نريد لمجتمعاتنا: هل نريد مواطنين ايجابيين متأهلين علمياً يخدمون مجتمعهم والدولة، أم مواطنين يطّلقون شعبهم ودولتهم ويمتشقون في وجهها السلاح باسم الكفر والإيمان؟ وفي ضوء هذا السؤال يتقرر أي نوع من التعليم والتأهيل نحتاج إليه.
وليس يسع البرنامج التعليمي وحده أن ينجز هذه المهمة الكبيرة، وإنما ينبغي الى جانب ذلك إطلاق برنامج ثقافي تنويري شامل في المجتمع يرسخ تلك البذور، من خلال إشاعة ثقافة تنويرية تصحح النظرة الى الإسلام وتعاليمه. إنّ المفكرين والباحثين والأدباء والمبدعين هم من يقع عليهم أن ينهضوا

بأداء هذا الدور، وانجاز هذا المشروع الثقافي التنويري، لأنهم حملة الأفكار ومنتجوها.
ولعلماء الدين دور في المعركة ضد التكفير، وهو يبدأ من التكوين في المدارس الدينية- في البلدان العربية التي فيها هذا النوع من المدارس- الى التأهيل في الجامعات الخاصة بالعلوم الشرعية، والى خطب الجمعة والفتاوى والتأليف في الموضوعات الدينية، ناهيك بالمجلات والدوريات التي تشرف عليها وزارات الأوقاف ودور الإفتاء والمجالس والهيئات العلمية الدينية.

وما لم تجر إعادة نظر شاملة في طرائق التفكير ومناهجه، لدى علماء الدين، وفي كيفية تكوين الأجيال الجديدة منهم، وما يقترن بهذا التكوين من فتح وعيها على آفاق المعرفة الإنسانية المعاصرة، فان دور هذه الفئة سيؤول الى الزوال، وستحتل مكانتها تيارات الإسلام الحزبي التي تعرف كيف تخاطب ضائقة الناس ومظلوميتهم.

وأخيراً، فان لفئة الإعلاميين والصحفيين دور كبير في التدليل على خطورة ظاهرة الغلو والتكفير، والتنبيه الى سبل مواجهتها، ويجب أن يقترن ذلك بإفساح مساحة معتبرة، في المنابر الصحفية والإعلامية، للمادة الفكرية التي يقدمها باحثون مختصون في الدراسات الإسلامية، وتاريخ الفكر، وعلم الاجتماع الديني، وعلم الأديان المقارن، من خلال برامج حوارية، أو مقابلات، أو ندوات وحلقات نقاشية.

إنّ التغذية المالية والسياسية لقوى التكفير فصل خطير من فصول السياسة العربية المعاصرة، بل لعله أخطر فصولها جميعاً؛ إذ يكفي انه قاد الى تخريب أوطان، وإنشاب فتن وحروب أهلية في جسم المجتمع والدولة، وما لم تتوقف هذه السياسة الخرقاء، ويتوقف معها إنتاج التكفير في المدارس والجامعات، فلن تتوقف معاناة هذه البلدان العربية مع ظاهرة تذكّرها بأسوأ ما في ماضيها.
ملامح رؤية تربوية لتحسين الواقع التربوي في مجال المناهج وطرق التدريس

تركز المناهج الحالية على الحفظ والاستظهار، وافتقارها الى الفكر النقدي والعلمي المتجدد، الى جانب انشغالها بتقديم المعرفة المجزأة. ولكي تتوافق هذه المناهج مع توجهات الفكر التربوي المعاصر، وتكون قادرة على بناء وتربية الإنسان القادر على التعايش في ظل التحولات العالمية منها والمحلية فإنها يجب أن تسعى لتحقيق ما يلي:

1- تحديث مناهج التعليم وتطويرها باتجاه فتح مضامينها على ثقافة حقوق الإنسان، وتكريس قيم التسامح وتعزيز المشاركة، واحترام الآخر، ونبذ العنف، والاعتراف بالحق في التنوع والاختلاف، وإعلاء روح الجماعة والمصلحة العامة بدلاً من الأنانية والتطرف والانغلاق.

2- تركيز المناهج الدراسية على تدريب الطلاب على تطبيق منهج النقد المجتمعي الذي يعتمد على الدقة والموضوعية، وتنمية مفاهيم ومهارات النقد المعرفي والعلمي لدى الطلبة.

3- تضمين المناهج الدراسية لمحتويات تعليمية تدعو الى إعادة الإنتاج المجتمعي، وتقديم ثقافة واعية بمشكلات المجتمع، بغية تكوين إنسان لديه وعي اجتماعي وقادر على المشاركة الايجابية في حل مشكلات مجتمعه.

4- تصميم المناهج بطريقة تركز على فلسفة التعلم الذاتي، والتي تعين المتعلم على الاهتمام بدوره الفعال وبمشاركته المباشرة في التعليم، وتغيير دوره من متلق سلبي الى مشارك فعال وباحث عن المعرفة، وناقد لها، بل ومقوم لنتاج جهده وتحصيله.

5- التنويع في طرق واستراتيجيات التدريس لتمكين المتعلم من ممارسة التفكير النقدي، وذلك من خلال أنشطة تعليمية مختلفة تعتمد على العصف الذهني، والتعلم النشط، ولعب الأدوار، والتعليم التعاوني، لمساعدة الفرد المتعلم على تنمية قدراته على التعبير وإبداء الرأي، والتحاور مع الآخرين، وإعمال العقل، وتنمية خياله العلمي، وتنمية قدرته على الاكتشاف.

• مشرف تربوي



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات