عن الأنفاق والعجول


عن الأنفاق..وما أدراك ما الأنفاق!
بدأت رحلتنا المأساوية مع الأنفاق منذ أَُدخلنا، في النفق المظلم، ووعدنا بالضوء في نهايته!

أين نحن الآن؟ ما زلنا في النفق المظلم، والظُلمة تشتد فلا يرى واحدنا في هذه الحلكة الدامسة إصبعه لو رفعه أمام أنفه.

في هذا النفق، نحن فقط نسمع تنهدات، حشرجات، نوبات بكاء، عويلاً، ندب نساء فقدن أحباءهن في هذا النفق الذي يأخذ شكل ضريح بلا شاهدة، والذي طال زمن حشرنا فيه.
المقاتلون الفيتناميّون حفروا الأنفاق، ومنها انبثقوا في قلب معسكرات المارينز، فأذهلوهم وكسروا شوكتهم، وبرهنوا على أن الأرض تقاتل مع أهلها إن هم قاتلوا لتحريرها، وجعلوا من الضعف قوّة، فلم يقنطوا ويستكينوا منتظرين تغيّر موازين القوى التي لا يمكن أن تتغيّر وحدها بالمصادفة، أو بالحتميّة التاريخيّة التلقائيّة.

الفلسطينيّون برعوا في مباغتة المحتلين الصهاينة، وفي أكثر من موقعة، وما الجندي (شاليط) سوى أحد عناوين تلك الأنفاق (المقاومة) التي بشّرتنا بدنو بشائر الخروج من نفق سياسة العمى، والركون إلى وساطة أمريكا، والركون إلى نصرة ودعم
(الأشقاء) الذين عهدناهم متقاعسين في أحسن الأحوال!

الأنفاق التي ابتكرت، ومنذ الانتفاضة الأولى المغدورة، للعبور بالاتجاهين، رغم حصار الاحتلال لقطاع غزّة، ومن تحت أنفه، وبطنه، وأقدامه التي تحتّل السطح، لم تعد تؤدي الوظيفة التي وُجدت لها، بل صارت أنفاق موت، حالها حال الزوارق التي تنقل (المهاجرين) العرب والأفارقة الذين تلتهمهم أمواج البحار، بسبب انهيارها لضعف بنيانها أحيانا، وغالبا لأن الدولة المصريّة الشقيقة تنسفها على من فيها تعبيرا عن وفائها بالتزاماتها أمريكيّا و(إسرائيليّا)!

ومع ذلك فالحكومة المقالة ـ هذا وصف حكومة رام الله، وجماعة السلطة، وهو يتردد في وسائل الإعلام العربيّة الرسميّة، لا وصفي أنا، فأنا أرى ككثيرين غيري أن الحكومتين، والسلطتين غير لازمتين، وأنهما معا أطالتا مسافة النفق المظلم الذي ننحشر فيه قضيةً وشعبا ـ تصف العلاقة مع مصر بأنها جيّدة ومستقرّة!

أهناك نفاق أفدح من هذا النفاق؟ وأصفه بالفداحة لأنه مكلف للشعب الفلسطيني داخل الوطن وفي الشتات!
الحالة مستقرّة تعبير طبيّ ملطّف لحالة مريض ميؤوس من شفائه، فكيف تكون العلاقة مع الدولة المصريّة"جيّدة و..مستقرّة؟ يا جيّدة.. يا مستقرّة، لماذا اللف والدوران، وعلى من التعمية بينما أبسط فلسطيني بخاصة، وعربي بعامة، يعرف دور نظام نسف الأنفاق على رؤوس الفلسطينيين؟
ملايين العرب، وشعب مصر أولاً، يعرفون أن العلاقات (مستقرّة)، وتزداد استقرارا يوما عن يوم، بين حكومة غزّة المقالة ومصر(الشقيقة)، وهذا الاستقرار يتجلّى في نسف الأنفاق التي تُسرّب منها بعض المواد التموينيّة، والأدوية، وأسطوانات الغاز ـ الناس في غزّة عادوا إلى أيّام بوابير الكاز، ولأن الكاز مفقود فقد رجعوا إلى أيام الخبز على الصاج باستخدام الحطب إن توفّر! ـ ومع ذلك فحكومة نظيف، وعنوانها (أبو الغيط) المولع بتكسير أرجل الفلسطينيين، والمعجب كما يبدو برابين، تتحدّث عن حرصها على الأشقاء الفلسطينيين، وتنسف الأنفاق على رؤوسهم بأوامر عليا، لأن عمليّة السلام، ومصلحة النظام الحاكم، فضلاً عن نسف الأنفاق، يعبّر عنها بمطاردة المصريين الذين يندفعون إلى الحدود المصريّة ـ الفلسطينية بعلب الحليب لأطفال القطاع، ويقبض عليهم، وتصادر الهدايا التي يحملونها لإخوانهم .
علاقات جيّدة و..مستقرّة!

عيب الكذب والنفاق والتدليس، وفوق أنه عيب مشين، فإنه لا يفيد مع نظام ينسف الأنفاق على رؤوس الفلسطينيين، دون وازع من ضمير، أو خجل، ومن يجامل هكذا نظام يحرس أمن (إسرائيل) فإننا نقول له: الأفضل أن تنتبه إلى عذابات من تتحكّم برقابهم وبطونهم، ولتبحث عن حلول جديّة و.. ليس علاقات مريضة (مستقرّة) لا تتعافى بالتصريحات المجاملة!
عن العجول!

للعجول علاقة عضوية جدلية بالأنفاق، وهذه العلاقة من منجزات تحديدا الدولة المصرية الشقيقة، و..العلاقة الجيّدة والمستقرّة معها!
فهي حشدت رجال أمنها ـ ولا أقول جنودها، فالجنود ينتمون لجيش مصر العظيم، جيش العبور، والفالوجا، وثورة 23 تموّز (يوليو) ـ بعد اختراق الفلسطينيين الغاضبين لمعبر رفح بالقوّة، وعناقهم واخوتهم أبناء مصر الطيبين.

الفلسطينيون وقد طال الحصار عادوا للأنفاق، ومنها (ينفقون) احتياجاتهم عبر الأرض المثقوبة!
أحد الأصدقاء زودني بالبريد الإلكتروني بصور حديثة عرضها موقع فلسطيني جديد على الإنترنت، أراد القائمون عليه الترويج له بخبطة صحفيّة، فتدبّروا أمرهم وصوروا العجول التي يتّم تسريبها في الأنفاق من الجهة المصريّة، وتنتشل بكّل حرص وود ولطف وتستقبل بالحفاوة والترحاب في الجهة الفلسطينيّة!

لو رأى الأوروبيون المعنيون بحقوق الحيوان صور العجول، أتوقع أن ضمائرهم ستهتز، وأنهم سيسيّرون التظاهرات المنددة بتعذيب هذه العجول.. يا للإنسانيّة الحقّة!
بموضوعيّة أقول بأن الصور ستساعدهم على وضع القضيّة أمام الرأي العام في أوروبا، فالعجل يربط من تحت آباطه بحبال غليظة، ويدلّى في النفق الذي تشبه فوهته فوهة البئر، ومن ثم يشحن عبر النفق بوسيلة بدائية خطرة، وعندما يطل رأسه تحت أنظار المستقبلين الفلسطينيين، فإنهم يهللون فرحا، ويأخذون في انتشاله (بحنيّة) عبر فوهة تتسع للعجل الصغير الذي سيربّى جيدا، ويسمّن، ثمّ يذبح ويباع لحمه بمبالغ مرتفعة جدّا، بحيث لا تحلم كثير من الأسر الغزّية بتذوّق المرق، ويؤرقها وأطفالها تشمّم رائحة الدسم المنبعثة من بيوت القادرين!
والقادرون ينتمون للفصائل، ولا سيّما للفصيلين الكبيرين المتصارعين، ولا سيّما محازبي الحكومة المقالة الذين يحظون بالرعاية والانحياز كونهم اخوة في الإيمان، أمّا عامة الشعب فلا لحم عجول لهم، وما عليهم سوى الصبر في النفق المظلم!

العجول يا سادتي تدخل النفق وتخرج بالسلامة، ونحن في زمن السلطتين المتصارعتين ما زلنا في النفق، ولحمنا الفلسطيني بات أرخص من لحم العجول بكثير!
هذه الأنفاق مكلفة، فمن يحفرونها يحصلون على ألوف الدولارات، والحكومة المقالة تفرض ضريبة إنشاء النفق، وهي تأخذ ضريبة على البضاعة عجولاً أو أدوية، أو نفطا...
راح زمن المقاومة، ودخلنا في زمن الهدنة، وضرائب الأنفاق، وإزجاء التحايا لنظام يحاصر شعبنا، ويحرم أطفالنا من علبة الحليب!
مفارقة:

قبل أيّام قرأت في الصفحة الأخيرة من "القدس العربي" خبرا طريفا عن عائلة بريطانيّة لندنيّة، قبضت على لّص تسلّل إلى بيتها، وجثمت جميعها عليه، وأبلغت الشرطة، التي وفدت على عجل، وأمسكت به بالجرم المشهود، واقتادته إلى حيث سيلاقي جزاءه.

في بلادنا العربيّة الأمر مختلف، فاللصوص يقتحمون البيوت، ويجثمون علينا نحن شعوب أمّة العرب، ونحن نصرخ طلبا للنجدة، ولكن لا أحد يهب لنجدتنا، ولصوصنا يهددوننا بإنزال أشّد العقاب بنا، لأننا نزعجهم بصراخنا...

هذا هو الفرق بيننا وبين أي شعب اعتاد حماية (بيته) من اللصوص، وعنده شرطة تلبي استغاثته، وتهب على أربع عجلات تسابق الريح لتقبض على اللصوص، لا علينا...
بالله عليكم: كيف نخرج من النفق المظلم، ومن مصيبة العيش تحت مؤخرات اللصوص..يا عرب؟!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات