احتفالُنا اتّباعُنا لا غيْر !


يقول الله – جلّت قدرتُه - : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }

اتفق أهل السّنة والجماعة على أن العروبة أفضل الأعراق والأنساب ؛' وسبب هذا الفضل – والله أعلم – ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم ، وذلك أنّ الفضل إما بالعلم النافع ، وإما بالعمل الصالح ، والعلم له مبدأٌ : وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم ، وتمامٌ : وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة ، والعربُ هم أفهم من غيرهم ، وأحفظُ وأقدر على البيان والعبارة ، ولسانُهم أتمُّ الألسنة بياناً ، وتمييزاً للمعاني جَمْعاً وفرْقاً ، يجمعُ المعاني الكثيرة في اللفظ القليل .
وأمّا العمل فإنّ مبناه على الأخلاق ، وهي الغرائزُ المخلوقة في النفس ؛ وغرائزُهم [ أي : العرب ] أطوع للخير من غيرهم ؛ فهم أقربُ للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء وغيرِ ذلك من الأخلاق المحمودة ' كما قال شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه الله – في ( اقتضاءُ الصراط المستقيم لمخالفةِ أصحاب الجحيم) .

ولا ريب أنّ الأمة العربيّة قبل الإسلام كان فيها من المنكرات والقبائح الشيء الكثير ؛ مع ما كانوا عليه – إضافة لما ذكر - من الشجاعة والإقدام ، والكرم والجود ، والوفاء بالعهود ، والدفاع عن الأعراض ، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة .

ومن ذلك أنّ العرب كانوا قبل الإسلام أناساً ذوي قلوبٍ قاسية ؛ وطباعٍ خشنة ، والجهل فيهم قد بلغ حدّ أن يكون ديناً يتبع ، واستشرت بهم العادات المذمومة والقبيحة حتى صاروا يتغنون بها في أشعارهم ؛ وفشت فيهم الثارات والنزاعات ، فكانوا أمة تفرُّقٍ وتناحر ؛ وتقاتل وتشاجر ، وعصبية عمياء وتفاخر ؛ يأكل القوي منهم الضعيف ؛ عندهم المُوسِر مَهيبٌ مُوقّر ، والمُعسرُ مَهينٌ مُحقّر ، وكان فيهم الفظاظة والشدّة ، والغلظة والحدّة ؛ ما يجعل أمر تحررهم من أغلال الجاهلية و تلك الأوحال ضرْباً من المُحال .

فبعث الله – تعالى - فيهم { رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }؛ فبدأ النبي – صلى الله عليه وسلم – معهم داعياً إلى الله بالعلم والبيان ، والحجة والبرهان ؛ ناصحاً لهم ترك القبائح والرذائل ، ومُرشداً إلى عظيم الأخلاق والفضائل ؛ مُبشراً برضوان الله – تعالى - لعباده المتقين ؛ ومُنذراً لهم - من سخط الله وعقابه - إن كانوا من المكذبين .

وقد وجدوا فيه – صلى الله عليه وسلم – رجاحةَ العقل وكماله واتزانه ، وسعة الصدر ، والرأفة والرحمة ، والحرص على ما ينفعهم ، والصبر على أخطائهم وزلّاتهم ، والرفق واللطف بهم ، والشفقة عليهم ، وفصاحة اللسان، وحصافة الأسلوب ،وحسن المنطق ، والحكمة البالغة ، والشجاعة الغالبة ؛ والتواضع وخفض الجناح لهم ، والكرم والبذل ، وحفظ العهد ، والوفاء بالوعد ؛ وغيرها من الخصال الحميدة التي ' لم تندُرْ فتُعدُّ ، ولم تُحصرْ فتُحدُّ ' كما قال الإمام الماوردي ( إمام المشرق في زمانه ) ، فكان – صلى الله عليه وسلم – رحمة ، وهدى ، وبشرى بكل ما تحمله الكلمة الواحدة من معان ٍ باهرة ، ودلائل ظاهرة ، وأوصافٍ نادرة .

نعم .. إنّه المبعوث رحمة للعالمين ، وهدى وبشرى للخلق أجمعين ، سيّد ولد آدم – عليه السلام – يوم القيامة ، وخير الأنام محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلّم تسليماً كثيراً طيّباً مباركاً فيه - .

وفي ذكرى مولده عليه أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم عليه ..

تعظيمُ نبينا - صلى الله عليه وسلم - أحقّ أنْ يكون في سائر العام ، لا يكون في يومٍ وننسى في باقي الأيام ..!

وأمّا الاحتفالات الغنائيّة والإنشاديّة فليست من ديننا في شيء وشر ، وخيرٌ لصاحبها حُسْنُ اتّباع واقتفاء للأثر !

ولا تخلو كثيرٌ من تلك ( الموالد ! ) من المنكرات التي تصل حدّ الشرك ؛ فهذا قائلٌ يقول :

يا أكرمَ الخلقِ على ربه
وخيرَ منْ فيهمْ به يُسألُ

قد مسَّني الكربُ وكمْ مرةٍ
فَرَّجتَ كرباً بعضُه يُعضِلُ

عجِّل بإذهابِ الذي أَشتكي
فإنْ توقَّفتَ فمنْ أَسألُ؟

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله" البخاري.والإطراء وهو الإفراط في المديح، ومجاوزة الحد فيه.

ولما ناداه بعض الناس وقالوا: "يا خيرَنا وابنَ خيرنا، وسيدَنا وابنَ سيدنا". قال لهم صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله ورسولُه، ما أُحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيَ الله عز وجل" أحمد وهو في الصحيحة.


قال ابن الحاج المالكي في "المدخل": "العجب العجيب، كيف يعملون المولد بالمغاني والفرح والسرور؟". وقال الحافظ أبو زرعة العراقي - رحمه الله -: "لا نعلم ذلك ولو بإطعام الطعام عن السلف"

وقال - رحمه الله - في "المدخل" (2/312) "فإن خلا - أي عمل المولد- منه - أي من السماع - وعمل طعاماً فقط، ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان،وسلم من كل ما تقدم ذكره - أي من المفاسد- فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ أن ذلك زيادة في الدين ليس من عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه، لأنهم أشد الناس اتباعا لسنة رسول الله – عليه الصلاة والسلام -، وتعظيماً له ولسنته – عليه الصلاة والسلام -، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع، فيسعنا ما وسعهم... الخ".

و قال أبو عبد الله الحفَّار المالكي – رحمه الله - : "وليلة المولد لم يكن السلف الصالح وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون لهم يجتمعون فيها للعبادة، ولا يفعلون فيها زيادة على سائر ليالي السنة ،لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعظم إلا بالوجه الذي شرع به تعظيمه، و تعظيمه من أعظم القرب إلى الله ، لكن يتقرب إلى الله جل جلاله بما شرع، والدليل على أن السلف الصالح لم يكونوا يزيدون فيها زيادة على سائر الليالي أنهم اختلفوا فيها ، فقيل إنه - صلى الله عليه وسلم - ولد في رمضان وقيل في ربيع، واختلف في أي يوم ولد فيه على أربعة أقوال، فلو كانت تلك الليلة التي ولد في صبيحتها تحدث فيها عبادة بولادة خير الخلق - صلى الله عليه وسلم -، لكانت معلومة مشهورة لا يقع فيها اختلاف ولكن لم تشرع زيادة تعظيم ...ولو فتح هذا الباب لجاء قوم فقالوا: يوم هجرته إلى المدينة يوم أعز الله فيه الإسلام فيجتمع فيه ويتعبد، ويقول آخرون: الليلة التي أسري به فيها حصل له من الشرف ما لا يقدر قدره، فتحدث فيها عبادة، فلا يقف ذلك عند حد، والخير كله في اتباع السلف الصالح الذين اختارهم الله له، فما فعلوا فعلناه وما تركوا تركناه، فإذا تقرر هذا ظهر أن الاجتماع في تلك الليلة ليس بمطلوب شرعا ، بل يؤمر بتركه" المعيار المعرب للونشريسي "7/ 99ـ 100" .

وصلّ اللهم وسلم وزد وبارك على خير الأنام سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومَن استنّ بسنتهم واتّبع أثرهم إلى يوم الدين .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات