يا سنين اللي راحت – إرجعي لي


جاءتْني مُتماسِكةً مُتَجلدةً ، وروحُها تُكابِدُ همّاً ثقيلا . تُجَلِّلُهُ بوقارٍ ثقيلٍ ، يَغشاها ويُعمي دُنياها . وما أن إرتَطَمَتْ عينايَ بِعينيها ، فَيضٌ من الدمع ، حاولَ عبثاً إسعافَها ، في إطفاءِ لَهبٍ بانَ لي مُشتَعلٌ في كِيانِها كلِّه. أشاحت بوجهها صوب الأرضِ مُطْرٍقَة ، لِهُنيهاتٍ خِلْتُها دهراً . قَبل ان تتجه بعينيها إليَّ في إصرارٍ مَوْجوع ، مَبحوحٌ يُتَمتِم :

- العُنوسةُ يا صديقي ، طِفلةٌ عنيدةٌ مُتعبة ، تَلْبَسُني قهراً كل ليلة ، فأمْخُر عُبابَ خيالاتها . لأقيمَ جُسوراً مع المستقبل ، فأجدُني أحفرخنادقَ في الذاكرة . أستطيعُ تمزيقَ كلِّ شئ إلا صقيعها ، فهو مُتقلبٌ مُؤلِمٌ لا يُبدي المودة . لِوقارِها ظُلمات دائمة التغير الحوار مع صمتها شائعاتٌ مُرجِفَةٌ وأحيانا قاتله . ويا ليتَ قتلها رحيماً .

كلما تَسلَّلْتُ بِعيني او بعقلي او بقلبي ، إلى مرايا جسدي ونفسي ، مُتفحصة مُتأملة ، وقد قاربتُ الخمسين ، يوجِعُني عَدُّ السنينَ وهو يَغتالُ شبابي . ويمتص حيويةَ جسدي . فتحتويني نصف قشعريرة تسري متغلغلة الى الحشى ، ونصف قلقٍ خناسٍ ، لا يقف عند حدود قواعد الأشتباك مع العمر ، والأتزان المجتمعي .

أنامُ كل ليلٍ يا سيدي ، والألم ساهرٌ في كل معارجٍ النفس ، ودهاليز الروح ، وثنايا وإنحناءات الجسد . فأنا مع نصف الأنتظار ، لم أعد أرى أن للعنوسة صُبْحٌ قد يَتَنَفَّسْ .

ومع هذا ، فمهما إشتد خلافي مع عُنوستي وتنوعت مناظيره ، ومع شِراكِها الخَدَّاعَةِ المُنْتصبةِ في كل مكان ، فهي أجملُ من الموت صمتاً . وأرحم من شراكةِ الكَيْفَما كان .

رفعت مع كفيها حاجبيها الأنيقين وأكملت مُعاتِبَة : بِربك ما بالك صامتا ؟! ، الا تقل لي كيف انجح في محنة العنوسة ، وما يُريبُني فيها من صمتٍ ووحدة ؟

أعلم أني لا استحق كثيرا من حزني . وكيلا يجف حتى قَطْرُ الندى من رِياضي ، أريد يا صديقي ، مِعطفاً واقياً من رصاصها المباشر. فبعض رصاسها مُرتَدٌّ من حولي . يعجز عن قول أشياء . أشياء أشعر بها تموت على شفاه الناس .

تأملتُ وجهها الطيب في وداعته ، وعينيها في حزنهما ، محاولا ان أقول :
- في حُروبِ كَسرِ الأرادةِ يا سيدتي ، ما أبعد اليأس والتسليم والأستسلام . وما أقرب الأمل وحسن الظن . إحذري أشْراكَ سوء الظن فهي خُلَّبِيَّةٍ . خاصِمي في هذه المُواجهاتِ ، من تشائين وما تشائين ، وليُخاصِمك من يشاء . ولكن ، إياكِ ومُخاصمة‘ نفسك ، مهما ظَلَمَتْكِ .

لتنجحي في محنة الوحدة ، لا تُصغي بأذنيك مُطولاً ، الى شائعاتِ عَدِّ السنين ، في ما مضى عليك من إنتظارٍ مُمِلٍّ ، فهي فخاخ مُمَوَّهَة ٍخادِعَةٍ ، تَنْتصبُ حِيناً كالثعالب ، وأحيانا كالضباع ، حيث وحين لا نتوقع . وإن ساورك الشيبُ خِلْسَةً ، لا تُفَسِّريه ِبالأساطير أو الصفاتِ الزائفة . كوني بَشراً لا يَتجردُ من بَشَريَّتِه ، ولا تُحَملي نفسك على غير ما تُطيق .

إذا أردتِ أن يرزقك الله شريكا ، يُلَون معك عَتْمَ الليل وصَخَبَ النهار ، وما بينهما من معارج ومن مدارج ، ما عليك إلا أن تتخيليه .

حَمْلَقْتُ في عينها ، وقلت مُستنكرا : ما بالك تضحكين ؟! نعم عيشي الدَّوْر . فتحقيق الأشياء يا عزيزتي ، لا يتجسد الا بالأيمان بها .

لِمُلاقاتِه إبدأي بِقلبك لا بِعقلك . تخيلي مُفردات تضاريسه وأناقته وأناقته . وتواصلي مع عقله وروحه وقيمة . وأمعني الأنصات لبوحه . وإعملي على تحقيق حلمك بالعمل الدؤوب بالحوار . فنحن الذين نُسْعِدُ أنفسنا ، ونحن الذين نُشقيها . أما حديث الناس يا سيدتي ، نستكملة في نص قادم ان شاء الله .

فَردَدَتْ مع فيروز ، وإبتسامة حَيِيَّةٌ تَفوحُ عطرا من وجهها :
يا سنيني اللي ما رح تِرْجَعي لي ، إرجعي لي شي مرة . إرجعي لي ورُدِّي لي ضحكاتي إللي راحوا . وإنسيني ع باب الطفولة .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات