حكايةُ عيدِ الميلاد وحُمّى الغيابِ


عيدُ الميلادِ ذكرى والذكرى تجرجرُ الفكرةَ تلوَ الفكرة, فأيّ فكرةٍ وأيّ ذكرى يمكنُ أن يستعيدها هامشيٌّ (بين الترويعِ والمكابدةِ والتعنيفِ قضى عُمرَه)؟ أيّ ذكرى لميلاد زمنٍ ظلتْ محطاتُهُ تَتلُّ بعضَها عُنوةً بينِ قهرٍ وحرمانٍ إلى تنغيصٍ ونُكسِ انتهاءً بمحطةٍ تربضُ ثقيلةَ الوطءِ من خيبةِ الأمل؟
قالوا له: (مبروك), اليومُ عيدُ ميلادك, (هابي بيرثدي), اليوم ذكرى انبلاجك, مثلُ هذا اليومِ سحبتْ جدتك (يرحمها الله) رأسَكَ, دمعتْ عيناكَ منِ رغوةِ الصابونِ النابلسيّ, لفحتكَ قشعريرةُ البردِ بِحُجّةِ الخوفِ عليكَ بعيدا عن وهجِ مدفأةِ الكاز (الدمشقية) وهي تنتحُ برائحةِ البطاطا المشويّة تخرجُ مع ثقوب البواري المهترئةِ الملتويةِ كدروبِ قفرٍ جنوبيةٍ, تتلوى عبر الموجبِ تتقصد الكركِ (العبرة والمغزى والبوح والقضية, كيف يكون الجنوب جنوبا إن لم يسرح طرفه بالكرك سهولها تاريخها, شهداء الارض والحب والتضحية والكرم والفداء؟), عمّدوا جِلدك الرقيق ليؤصِلوك بزيتٍ طفيليٍّ لم تعبثْ به يدُ السفلةِ بالخلطِ والخداع, قالوا لك: لا تخفْ فزيتُنا (يونانيّ, إغريقيّ, رومانيّ المنشأ) يجعلك زَلِقاً من بين رصاصِ الثأرِ, وما دروا حينها انهم أطالوا في العناءِ عمركَ, ربطوا حولَ عُنقك خرزةً زرقاءَ من كهرمانِ البدعِ والسذاجة, ليقوك شرَّ الحُسّادّ وكأنّ الدنيا لم تلدْ مثلَكَ, برمُوكَ (كورقة الاتومان لتصبح هيشية بيد عجوز طفيلية تحفر في التاريخ فتعيد لك مجدك الغابر), لفّوكَ مثلَ ورقةِ عنبٍ بلقاوية حوُل حبيباتٍ من أرزّ (مصريّ) خلا كعادتِهِ من بروتينِ الحياة, طوّقوكّ في رداءٍ سميكٍ يقالُ له (كوفلية), كاشحِ اللونِ ( يعبق برائحة الدهن الادمي المعتق الممزوج برائحة البخور) المُتوَارَثٍ من جيلٍ إلى جيل بين بني عمك وأخوالك, أسبلوا يداكّ على جنبيّكَ وشدوا بالقماط (مشدٌّ عريض من قماش) وثاقك لتنفجر منتصباً في وجه الانحناءَ والخضوع في حضرةِ الأقزام, ومع آخِر عقدةٍ كبّلوا فيها جَسدكَ النحيل كدوائر حلزونية طوقت صدفة برية, صرتّ المقيّد مرتين مرةً في سجلِ النفوسِ رقما وطنيا مركوناً على رفوفِ الانتظار, ومرةً المقيّد بالوثاق من هامتك المزغبة الجلحاء (بدون شعر) حتى أخمص قدميك المُجعدتين بلا حراك, أخذتَ تصرخُ مُحتجّاً تشجبُ خروجكَ بلا عودة, مفارقا بيتكَ الآمنِ (رَحْمَ أمّك) العامرِ بالسكينةِ واللهفةِ إذ كنتَ محفوفاً بوجلِها عليكَ حدَّ الرعبِ والرهبةِ وفوبيا القلقِ من هروبكَ عنها وشروعكَ هائماً في دروبِ التيه.
ها هم الساعة يقولون لك: (مبروك), اليومُ عيدُ ميلادك, لكنك المندهشُ من تباريكٍ وتحايا يمطرونك بها في حضرة غيابك على أنغام تشردك, يرشقونك بعباراتٍ مكرورةٍ - (بارك الله فيهم) - لكنها ضربٌ من ضروبِ اللطفِ والمجاملة, وأنتَ لا زلتَ كما أنتَ تتساءلُ في جوفِ أعماقِكَ, مستغرباً تقولُ لذاتِك: أحقا؟ اليومُ هو عيدُ ميلادي؟ يستهجنون سخريتكَ من فرحةٍ عابرةٍ وزهدكَ في ابتسامةٍ خجولة, يسألونكَ: ما بك تتعجبُ؟ هل تسخرُ منا؟ أم تقلّلُ من أهميةِ الذكرى وتتواضع؟ اجابهم: أنا وحقُ صحبتِكم ناسٍ, وإن تذكرتُ مرة فإني غيرَ آبه, اقسمَ لهم بأنه طوى وجعَه من ذكرى الغياب فلا يروقُ له تذكارُهُ بعد أن استهوى التعامي وعاشَ خروفا ينسرب في قطيع يتنعّم بالتغابي, ترى, كيف له أن يَسعَدَ بذكرى تجلبُ له حُمّى فراقه, يتوهجُ فيها هجيرُ اغترابِه فيصطلي بأوجاعِ اقتلاعهِ من عشّهِ الدافئ؟
تبرموا, امتعضوا من بلادتِه وانعدامِ كياستِه, قالوا لبعضهم همساً حين غادروه : إنّه شظفُ الطباع, جِلفٌ, فهو لا يعترفُ بكل هذه الأمور, يقول عنها خزعبلات, انه حتما مجنون, يا ليتنا ما صافحنا فيه جنونَه, تبادلوا اللومَ والتهمَ, قالوا لبعضهم: نحنُ المجانين لا هو, نحن فاقدو الاحترام, جئناه من بعيدٍ لنباركَ له وإذ به لا يستحقُ العناء, الحقُّ كلُّهُ علينا حين نسينا أن (الحجر في مكانه قنطار).
سمع همسهم وتبرمهم, لحقَ بهم, قال لهم: عذراً يا إخوتي, أنا المجنونُ, أعتذرُ منكم على ما بدرَ مني, لكنّي بذكرى ميلادي حزينٌ كسيٌر بينما نفرٌ منكم بميلادي سعيد وهذا موضع غرابتي, أنا التائهُ في دنيا اختزالي كقربةِ ماءٍ منسيّةٍ على سبيلِ الطُرّاق العابرين, أتلهى بسقايتهم ظامئاً في وهج الصيف وهم في طقوسِ الاستجداءِ يهيمون, أعتذر منكم, لكن, هل يستوي الموت والميلاد؟ هل يستوي ألمُ الفراقِ مع لذّةِ الإيّاب؟ دعوني أتذكرُ يوما صحوتُ فيه على الحياةِ وأنا قبل مولدي في رحمِها مستكين, أسمعُ عواءَ جوعِها وايثارها كل الناس على نفسها, اسمع صهيل عطشها ورويد حزنها لكني في لُجّةِ كل ذلك الأنين كنتُ مفتوناً بلهفتِها وخوفِها على طفلِها الذي سيغادرُها فيغيب ويغيب, يطول الغياب فلا يعود لها إلا وفي قلبه بضع آياتٍ من القرآن, دعوني اليوم في ذكرى ميلادي أزورها أشكو لقبرها ألمَ الفراق, دعوني أذوب في غيابها أتلاشى في صمتها وسكينتها لعلي انتهي بسلام فألتقيها في لحدِ الإيّاب, ألفُ رحمةٍ على روحِها وألفُ تحية وسلامٍ من اللهِ خالقِ خيرِ الأنام.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات