غيوم رمادية .. على أعتاب زمن قبيح


تجتاحني هموم رمادية كلما نظرت إلى بانوراما العالم العربي اليوم.. وأشعر أنه عالم فقد حقيقته وجمالياته البعيدة في لحظة واحدة.. وتحول، دون أن يدرك، ضد إرادته الطيبة..
تحوّل أشبه بالانقلاب.. على حين غرّة سرق القراصنة سلام الكون.. وعفويته .

إلى زمن قريب كانت فيروز عنوان حياتنا.. نؤرخ عبر صوتها أعيادنا وذكرياتنا ومناسباتنا الحميمية..
(دخلك يا طير الوروار) غنتها حين كان عمر أخي الأصغر ثلاث سنوات.. وحين سافر عمي إلى أميركا كان ذلك بعد مهرجانات بعلبك بأيام حين أصر على حضور الأخوين رحباني وفيروز في (ميس الريم) آنذاك..

إلى زمن قريب كان عبد الناصر.. بصوته العربي يملأ أرصفة البلاد بإحساس غامر بالكرامة والعزة وأننا في قلب العالم، ولا يغير شيئاً إن كنا على وهم آنذاك، فقد كنا في حالة حرب شريفة.. حتى لو لم يكن عدونا شريفاً..

(يذكرني صوت فريد الأطرش دائماً بعبد الناصر.. وربما لذلك أحبه)..
إلى زمن قريب كانت (فتح) تعبر بنا نحو حلم التغيير والتحرير والثورة.. من خلال (فدائي) يرسم أسطورة بطولية.. إلى زمن قادم..
ولم نكن نشك آنذاك لحظة أن حلم العودة سيتحول إلى حقيقة ذات يوم.. وأن القدس وحيفا ويافا وباقي بيارات البرتقال الفلسطيني سنزورها يوماً أبناء بلد، وأصحاب أرض وتراب.. وعلى إيقاع زغاريد النساء ورصاص الكلاشينكوف وأهازيج أمة تحتفل بانتزاع حقوقها ممن اغتصبها ذات يوم..

إلى زمن قريب كانت بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة وتونس.. وباقي عواصمنا الحزينة تحلم بغد حضاري.. مثل كل النساء الجميلات سيتزوجن ممنْ أحببن..وسينجبن أطفالاً جميلين.. وسيكبرن ويزدهرن وتمتلىء بيوتهن ألقاً وأنواراً.. وحباً..

إلى زمن قريب كان نزار قباني مشغولاً بعقود الياسمين والكُحل العربي وتضاريس الأنوثة ومنابع الشعر والنبيذ.. ويثير في الحبق الموزع على شرفتنا الرغبة في العناق.. وفعل الحب..
ومحمود درويش يملأ دفاترنا المدرسية بأغاني التحدي والمواجهة..
ونجيب محفوظ يكتب روايته الألف في حارته الشعبية ومن مقهى في خان الخليلي يرسل أكوام الصفحات إلى منتدياتنا الأدبية ولقاءاتنا الثقافية.. لنختلف حول إبداعية (الثرثرة) بين سطوره..
وكان الكثيرون.. (مطر) بدر شاكر السياب، ودمشقية أدونيس، و(شعر) يوسف الخال وسوداوية الماغوط، وتمردات غادة السمان، و(همشرية) أحمد فؤاد نجم، وإيقاع صلاح عبد الصبور.. وحتى (هزلية) مسرح دريد لحام!!..
(مصابيح) حنا مينا، و(أيام) كوليت خوري، وزوربا يمثل إشراقة الشباب ولعنته.. وكان العود وكأس العرق و(فقر المازة) والاحتضانات الدافئة.. وكان صوت وديع الصافي يهبط من الأفق لنشرب نخبنا العشرين على إيقاعات (المجد معمّرها..)
(بغمضة عين) ..

رحل ذاك الزمن ورحل معه سحر الأغنيات ... وسحر الشوارع الغاضبة
ارتدت فيروز معطفها الطويل وهجرتنا يأساً..
ورحل عبد الناصر وتركنا يتامى..

وباعت (فتح) مفاتيح القدس بعد أن تآكل قلبها من خيانة الأشقاء..
و شابت عواصمنا دون زواج..
وكل أنبياء الشعر والقصة انتحروا على أرصفة وطنٍ هجرته طيور الحرية..
* *
هي غيوم رمادية.. لا يبدو عليها المطر!!
غيوم قادمة من تحولات همجية.. و(خبط عشواء)..
تكاتف أسود يضيق الحصار على ما تبقى من مساحات الذاكرة..
تكاتف النظام الأمني العربي والإسلام السياسي وحماقة النظام العالمي الجديد..
بدءاً من استباحة أنوثة الكلمة واختطاف ما تبقى من أحلامنا واعتقال آخر الرجال المحترمين..
وصولاً إلى فرض الحجاب على بيروت.. واغتصاب ما تبقى من عروبة القاهرة، واقتتال (الإخوة) في غزة، والذبح الظلامي في بغداد..
ألم أقل إنها غيوم رمادية.. لكنها لا تحبل بالمطر..

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات