«ثرثرة على حواف حاوية زبالة»


لا تبعد "حاويات القمامة" عن بوابة منزلي سوى أمتار معدودات ، أحرص أن أبقيها في منتصف المسافة الفاصلة بين منزلي والمنزل المجاور ، برغم المحاولات المتكررة لجاري الذي لا أعرف اسما له أو كنية ، دفعها بعيدا عنه ما أمكن ، والغريب في الأمر ، أن هذه "الحاويات" على ما فيها وما حولها من "مناظر" مؤذية ، تحولت مع الأيام ، إلى مسرح تروى من على خشبته ، قصص وحكايات.

ما زلت على عادتي ، استيقظ باكرا كل يوم ، وأهرع من سريري إلى "البرندة" ، تماما مثلما كانت تفعل والدتي التي ما أن تستيقظ من نومها ، حتى تخرج لاستقبال خيوط الشمس الأولى ، مرددة "الشهادتين" بصوت مرتفع ، وهو طقس لم تتوقف عن ممارسته حتى يومها الحاضر... حاويات القمامة الثلاث ، هي أول ما يقع ناظري عليه صباحا ، وقد طفحت بكل ما هب ودب وفاض عن سعتها المقدرة.

قبل أن تأتي سيارة الأمانة لجمع القمامة ، تكون الحاويات قد خضعت لعمليات تفتيش متتالية ، يقوم بها رجال وفتيان ، نساء وفتيات ، لا فرق ، يطوفون بالحاويات بحثا عمّا يمكن أن يباع ويشترى ، هذا يحمل كيسا مملوءا بالعلب الفارغة على كتفه ، وآخر يأتي ممتطيا صهوة "بكب" آيل للسقوط والتفكك ، وثالث يأتي صحبة أطفاله أو زوجته ، الكل يبحث عمّا يمكن أن يباع أو يشترى من نفايات الحي ، وأصدقكم القول أن ثمة "بيزنيس" نشطا في هذا المجال ، لم يتأثر بتباطؤ النمو ولا تراجع معدل المساعدات ولا ارتفاع نسبة العجز في موازنة العام 2010 ، الحركة على الحاويات لا تتوقف ، ودائما هناك شيء يمكن انتشاله من بين الأكياس أو من قلبها.

لا يوجد منزل واحد في حينا ، إلا وبه "شغّالة" ، غالبيتهن العظمى من الأندونيسيات ، ولأنه محظور على "الشغّالات" التواصل والاجتماع حول فنجان قهوة أو أرجيلة ، فإن "حاويات الزبالة" هي المكان الوحيد الذي تقتطعن فسحة من الوقت لتبادل أحاديث مقتضبة ، لا أدري عمّا تدور ، ولكن بالإمكان نسج سيناريوهات كاملة عمّا تتضمنه من شكوى وألم وحنين للمنزل والعائلة ، ولست أبالغ قلت ، أن لحظة "كب الزبالة" هي أكثر اللحظات إمتاعا وبهجة في نهارات "الشغّالات" الطويلة جدا ، ولو كنت روائيا أو مخرجا سينمائيا لكتبت رواية أو أخرجت فيلما بعنوان "ثرثرة على حواف حاوية زبالة".

يكشف التعامل مع "حاويات الزبالة" جوانب كثيرة من شخصياتنا وأخلاقياتنا ، لكأنها أصبحت محكا او حقل اختبار ، فثمة بون شاسع بين مواطنين يخرجون أكياس نفاياتهم المغلقة بإحكام من صناديق سياراتهم ، ويلقون بها في "الحاوية" ، وآخرين يقذفون بأكياسهم من شرفات منازلهم القريبة جدا ، أو "يتعاجزون" عن إلقائها داخل الحاوية ، فيكتفون بوضعها في جوارها ، تاركين لقطط الحي ، أمر العبث بها وتمزيق أحشائها ، وتوزيع مقتنياتها على الحي بأكمله. وإذ وجدت في نفسي "الجرأة" دائما على مواجهة هؤلاء وتحذيرهم من تكرار أفعالهم المشينة تحت طائلة الشكوى للأمانة والشرطة ، فقد تبين لي أنني لا أمتلك "جرأة" مماثلة على توجيه الشكر لمن يحملون نفاياتهم في سياراتهم ، ويقطعون بها مسافة طويلة لإلقائها في مكانها الصحيح... دائما كنت أخشى أن أجابه بسؤال: وهل أنت أكثر حرصا أو نظافة منا لتشكرنا على ما نقوم به من واجباتنا ، أم أنك تنصب من نفسك قيما على سلوك العباد ، تصب جام غضبك على هذا ، وتمنح ذاك وسام المواطنة من الدرجة الأولى ، إلى أن اهتديت إلى هذه "المقالة" لتوجيه الشكر والتقدير لكل هؤلاء ، من دون تحسب أو حرج؟،.


 



تعليقات القراء

ابو يزن
هاي مشكلة تؤرق الاردنيين بشكل عام وان 98 بالمئة منهم لا ينامون وهم يفكرون باليوم
التالي لانهم يستيقظون ومن البرندة يرون هذه الحاويات / الزبالة/ يعني احنا شو النا دخل بعريب الرنتاوي .

ابو يزن
23-11-2009 11:32 PM
LION7000
طيب ما فهمت يا سيد عريب الرنتاوي
انت حابب تشاركهم في نبش الزبالة


اما فعلا انه موضوع جدا مهم قصة الصبح مع الحاوية حق مش عليك الحق علي انا اللي قراءة لموضوع من اساسه
25-11-2009 01:36 AM
أبو محمد
ملاحظة جميلة ومقال راق
25-11-2009 09:40 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات