شذرات من رحلة العمر


 هكذا هو العمر, كشمعة برافينية يتطاير سناجها, يستنزف السهارى سناها, شيئا فشيئا تهبط قامتها ويتهاوى حضورها حتى يضمحل, أول السهرة كان سناها واسعا بدائرة نصف قطرها ضاف يجلل كل الأشياء من حولها إلى دوائر ضيقة تنوس وتخبو حتى تصبح عاجزة عن إنارة مكانها الذي زرعت فيه بلا حركة, كأنها في حالة انتظار قسري لتدفن في حضرة من أضاءت لهم عتمة العمر, أيها الرفاق, أمعقولة هي الحياة وفق هذه الفوضى واللامبالاة والتنكر! أضيء لكم ليلكم الحالك فتؤبنوني وتواروني بأيديكم في لحد العدم! تبا لكم أحبتي الأشقياء.

• خريف عمرنا طقس عجيب من مكونات الشجر بكل تفاصيله فمن بدايات الحمل إلى التورد والنضارة ثم إلى الالتواء والاضمحلال حتى يصير الغصن عاجزا عن حمل أوراقه, أما الورقة فقد كانت فيما مضى خضراء يانعة تظللنا تمتع ناظرينا تنتح من فجواتها رطوبة تخفف من غوغائية الحر الهاجر, بعد حين نرقبها وهي تذوي وتلفظ آخر أنفاسها لتسقط, يأتي طفل أو (حيوان) يطأها بقدميه فتتطاير مع هبات الريح, لا اثر لها بيننا إلا من ذكريات الملاذ الحنون في كنفها والتمتع ببهائها إلى حين.

• النخلة الباسقة, تطول, تتعاظم تصر وتكابد على حمل الثمر بكل تفاصيل الحمل وقسوته (من نوى إلى بلح إلى رطب إلى تمر شائخ متجعد يسقط على ارض الجاحدين), نزق الإنسان ورعونته يستهويان الاعتداء على الأشياء قبل أوانها, علمونا في احد دروس الطمع واقتناص الفرص (كلها عجرة (نيئة) قبل أن يأكلها غيرك ناضجة), هي ثقافتنا على الدوام فوق هذه الأرض بقاطنيها الجُحّد, نرمي النخلة المثمرة المعطاءة بالعصي والحجارة لكنها تكافئنا بكف مبسوطة منفتحة ليسقط الرطب المثمر حولنا وفوق رؤوسنا بينما تتشبث هي بالثمر الذي لم ينضج بعد, تمسك عليه ولا تأبه إلى شقاوتنا وجهلنا, أخيرا وبعد أن يصبح ناضجا تقدمه لنا هدية بكل أريحية وود, ثمر يغذي الروح والجسد ويبلل الريق من يباس مزمن, تماما كأم حنون لا يروقها تقديم الغذاء لصغارها إلا ناضجا أي في أوانه.

• طال الزمن واستطالت القائمة وأنا أحاول البحث عن علاقة أخلاقية سوية محكومة بقيم العدل والتوازن, لكني لم أجد, كل ما وجدته أن أصحاب الفضائل رهائن مقيدون بمحبس النهاية الحتمية المختزلة في رذائل التنكر والجحود, وبفجور اكبر بحتمية المصير المعلق على أسنة رماح الطعن ونصال التجريح والتقتيل, ان شرط الريادة والتميز محكوم بلزوم صبرك على كيد الحاسدين من حولك, ان كنت قادرا على تحمل ذلك فلتتقدم إلى مصاف الرواد, حينها ابذل ما في وسعك, وألا فالحذر واجب.

• لم أر في حياتي وقاحة أكثر من إصرار بعض القوم هذه الأيام على اشهار ردتهم الاجتماعية, كنا قديما إذا ما اقترف الواحد منا ذنبا أو إثما أو ابتلي بعادة منكرة كشرب الخمر مثلا أو الإدمان والعياذ بالله, فانه ينزوي إلى ركن بعيد خارج حدود القرية أو الحي, يبتعد عن القوم فلا يثرثر ولا يشجب ولا يدعي النزاهة , كنت اعرف أشخاصا ومنهم معلمي للغة العربية, لا عيب فيه إلا إدمانه على شرب الخمر, لم يكن لأحد مهما بلغ من قدرته على ممارسة الفضول أن يلحظه, أنا شخصيا لم الحظه إلا أن خالي تحدث مرة وكان مدرسا زميلا له في مدرسة القرية, وشى بهذا السر دون أن يقصد (فلتة لسان) وبلا أية تداعيات, كان الحضور يهمسون ويشيرون علينا لكتمان السر وبلغة العيون والشفاه (الشفاه مضمومة وممطوطة للأمام والحواجب مرفوعة إلى حدود تجعد الجبهة الأمامية وتلك لغة من لغات سائر أهلنا في القرى والأرياف الأردنية منذ القدم) دون جرأة على الإفصاح لنا نحن الصغار بكلام قد يحسب عليهم أدبا واحتراما لا خوفا, الحق انه كان معلما ذا فضل على كل طلابه علما وخلقا والأجمل من ذلك انه كان موضوعيا ملتزما بعدم التنظير والمباهاة, أدركنا بعد طول مدة أن الرجل مدرك لحدوده في مجال الردة الاجتماعية التي ابتلي بها من زمرة أصدقاء له في قصبة المحافظة التي تتبع لها القرية, حيث لا ثرثرة ولا ادعاء ولا تصديع منه للرؤوس بالقيم والأخلاقيات, رغم ذلك فقد ظل كبيرا في نظر الجميع كما ظل موضع احترام وتقدير, كل شي فيه جميل وطيب إلا من عيب وحيد, لطالما قالوا: يا حسافة!! حلف الزين ما يكمل, هكذا كان الجميع يرددون دون ضجيج بين كل مناسبة وأخرى يحل فيها طاريه (ذكره).



تعليقات القراء

حسن المومني
كل الاحترام لشخصك الكريم طه بك
كتاباتك الراقية تمثل نبض الشعب وما يجول ...وجال في الصدور
لا شلت يمينك ....
نرجو منك المزيد من هذه الدرر
18-08-2015 11:35 PM
خالد الغدران
كل الاحرام طه بيك
19-08-2015 12:41 AM
محمود الشقيرات
سلمت يمناك طه بيك
19-08-2015 10:02 AM
حسام العواسا
كلمه رائعه والاروع كاتبها....تحياتي طه بيك
28-08-2015 11:50 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات