واقعُ أمّة خائِر .. وفِقهٌ جائِر !


أعْظمُ ما يُستغربُ اليوم ويُسْتهجنُ - مِن كثيرِ عجائب زماننا! - هو : تأسيس فقه سياسيّ حادثٍ حائر ، وخالٍ من التصور السليم لواقع الأمّة الخائر .

قوامُ ذلك الفقه جامعٌ بين أمرين : أولاهما الحماسةُ الفارغة التي هي من جنس ما بيّنه الله - تعالى - عن بني اسرائيل في قوله : { ألمْ ترَ إلى الملأ مِنْ بني إسرائيل مِن بعدِ موسى إذْ قالوا لنبيِّ لهم ابعثْ لنا ملكاً نقاتل في سبيلِ الله قالَ هل عَسيتُم إنْ كُتِبَ عليكم القتالُ ألا تقاتِلوا قالوا وما لنا ألا نقاتِل في سبيل الله وقدْ أُخْرجنا مِن ديارنا وأبنائنا فلمّا كُتِب عليهم القتالُ تولّوا إلا قليلاً مِنهم واللهُ عليمٌ بالظالمين } ؛ والثاني اغماضُ النظر في المآلات المترتبة على الأقوال والأعمال ؛ والذي يشتدّ أثرُه في النوازل العامّة ، والأحداث الهامّة .

فأمّا الحماس الزائد الذي لا يقيّد بالكتاب والسّنة فهو من مقوّيات التهوّر ، ومن أساسات الغلوّ والتطرف و التهوّك ؛ ودين الله – جلّ ثناؤه – ليس بشعارٍ يُرفع أو يُنظّم .. بل بعلمٍ يُلْزم وشعائرٍ تُعَظَّم .

وأمّا عدمُ اعتبار النتائج والمآلات عند تقرير الأحكام فمصدر نشوء أطوارٍ متتالية من الزّلل ، و طروء أحوالٍ خطيرة من الخَلل في عقائد الناس الدينية ومعايشهم الدنيوية ؛ وكذلك يُفضي – إنْ زادَ مِن المُنتسبين للعلم – إلى شرّ عريض ، وقد تستشري بسببه الفتن .

إنّ ما نعايُنه اليوم من مشاهد القتل وسفك الدماء بين المسلمين لا يسرُّ الناظرين ، وما نعانيه بسبب الخائضين في الأحداث الجارية بغيرِ هُدَىً يزيدُ فينا الألم ويُزيلُ عنّا الأمل ، ويُغيرُ الجرح – اللهم إلّا المُنَظِّرين - ؛ وأكبر مِن هذا أولئك الذين لمّعَتْهُم وسائل الإعلام التي لا تَرْقب في المُسلمين أمْناً ولا استقراراً ؛ فاستهانوا بدماء الأبرياء – مساومة ومساوقة – تحت تأثير أوهام الحرّية والكرامة التي كانوا بالأمس القريب ينشدونها لدى الشيعة ، والعلمانيين ، والقوى الغربيّة باسم التقريب بين المذاهب ، وباسم الديمقراطيّة وسياسة مدّ الجسور ! .

كان بعْدُ الحدثُ المصري الذي كشف الغطاء عن زَيْف ما يسمّى ( الإسلام السياسي ) ، وهشاشة البناء الذي شيّده أصحابُه بالعمل الحزبيّ القائم على النّظام الديمقراطي الغربي ؛ وليس على تعظيم مسائل التوحيد والسّنة وتربية الأمة عليهما ؛ فكان حاصلُ هذا كلّه تدميرُ دول إسلاميّة ، وشيوع الفوضى والخراب فيها ، وسفْكُ دماء خَلْق كثير من المسلمين ، وتشريد آلافٍ آخرين ، ناهيك عن انتشار الفساد بأشكاله ، وتفرّق الناس وتفشي العصبيات الحزبية والطائفية بينهم ، وغير هذا مما أنهك جسدَ الأمة ، وأوغل في تهديم أركانها .

المنظّرون في أحزاب الإسلام السياسي – خاصة الإخوان المسلمون - جَهِدوا كثيراً في تكريس المبادئ الدقيقة للسياسة العصريّة بين الشعوب ، ووظفوا لها أساليب كثيرة مكّنتهم من نشرها وترويجها على الوجه الذي يخدم أحزابَهم ومذاهبَهم ؛ فكان دأبُهم الذي لا ينقطع موجّهاً نحو اضفاء الصبغة الشّرعية على المظاهرات والإضرابات ، والتشهير بعيوب الحكام وتزيين الخروج عليهم ، والتحريض على الثورات ..! ؛ وذلك دون اعتبار – ولو يسيرٍ – لما أصّلَهُ علماءُ الإسلام مِن القواعد الفقهيّة التي تصون الأحكام الشرعية عن الضّعف ، وتُنْزلها في محلٍّ يحفظ للأمّة أسباب قوّتها ومَنَعَتِها ، ويقيها شرّ الانزلاق في أتّون الفتن وضراوة بأسها .

مَنْ يستنكر هذا فلينظر ما آلت إليه دول ( الربيع العربي ! ) جرّاء التسرّع في إصدار الفتاوى والأحكام الدّاعية للمظاهرات والثورات ، والدّاعمة للخروج على الحكام ؛ من غير نظرٍ العواقب أو موازنة بين المصالح والمفاسد ، ولا اعتبارٍ للقدرة والاستطاعة ؛ حتى تمزقت دول بأكملها وانهارت ، وضيّع الناس أمنهم وشُرِّدوا ، واسْتُبيحت الأموال والأعراض ، وعمّت الفوضى فيها وشاع الخوف والجوع ؛ وأهل التنظير السياسيّ – مع ذلك كُلِّه – مُسْتكبرون مُبرِّرون : استكبروا على كثيرٍ من النصوص الشّرعيّة بفهمٍ سقيم ، وبرّروا ما حلّ وتحصّل لشعوب الربيع بحججٍ واهيةٍ لا تستقيم ! ؛ والأدهى أنهم يعيبون على المانعين للثورات أهل الفقه والنظر بما يُبغضه اللهُ – تعالى - ورسولُه مِنَ البُهتان والكذب والزّور الذي وَصَل حدّ التضليل والتخوين وحتى التكفير .. ؛ فأيّ فقهٍ هذا الذي أسّسه – وسيّسه ! - القوم ؟ .

إنّ الفقه المعتمد والمُعتبر لدى أولئك الذين أنذروا قومَهم فتنة الربيع العربي المزعوم ليس وليدَ تعصّب فكريّ لطائفةٍ أو تحيّز ، ولا طَلَباً لشهرةٍ وتميُّز ؛ بل هو على أصول الشريعة مُرتكِز ، ومِن آفات الأحكام مُحْتَرِز ؛ حاديهم ما يتبيّن من الدّليل ، وفهمُ الصّحابي الجليل ، ونظرُ أعلام السّلف الذي يشفي العليل .. يقول أبو هريرة – رضي الله عنه - :
' حفِظْتُ مِنْ رَسولِ اللهِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّم - وِعاءين ، فَأَمَّا أَحدُهُما فَبَثَثْتُهُ في النَّاس ، وأَمَّا الآخرُ فلَو بَثَثْتُهُ ، لَقُطِعَ هذا البُلْعومُ ' .

قال الإمامُ الذهبيّ - رحمه الله - في ( سير أعلام النبلاء ) : ' هذا دالٌّ على جواز كِتْمان بعض الأَحاديث الَّتي تحرِّكُ فتنةً في الأُصول أَو الفروع ، أَو المدْح والذَّمِّ ، أَمَا حديثٌ يتعلّقُ بحِلٍّ أَو حرامٍ فلا يحِلُّ كِتْمانُه بوجهٍ ، فإِنَّه مِن البيِّنات والهُدى '

قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : ' وممّن كرِه التحديثَ ببعض دون بعض : أحمدٌ في الأحاديث التي ظاهرُها الخروجُ على السلطان ، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في الغرائب ، ومن قبلهم أبو هريرة ، كما تقدم عنه في الجِرابَين ، وأنّ المرادَ ما يقع من الفتن ' .

ولذا كان العجبُ مِن صنيع الكثيرين – ومنهم منتسبون لأهل العلم ! – كيف يهيّجون عامة الناس ويحرّضونهم على الخروج بالخطابات والمقالات والتصريحات .. ؛ غير آبهين بالزمان الذي نحياهُ بكل ما أتى به من أسباب التفرّق بين المسلمين واختلاف قلوبهم ومذاهبهم ، ولا بواقع الأمة المُثقل بشنيع المعاصي والسيئات ، وانتشار الغلظة والعنف والشّدة والتنافر ، ولا حتى بجهل عامة المسلمين بدينهم وتفشي البدع بينهم ، وقلّة مَن يتعاهدهم بالتربية والتعليم ؛ فبدل أنْ يلتفتوا إلى المسلمين بما ينفعهم - عاجلاً وآجلاً – كانوا يُلقون بهم في ردى السياسة العصرية الهالكة المُهْلِكة ، ويطلبونهم إلى ميادين التحزّبات المُنْهِكة ، والمظاهرات والإضرابات التي لا تأتي بخيرٍ قطّ ؛ بل تقدحُ شرارَ الفتنة وتُغذّي منابتَها .

أوطانُ المُسلمين اليومَ تطاولت عليها أيدي الغشمِ والجهل والاستهانة على ما بها مِن الجراحِ والأمراض ، وعلى ما تكابده مِن سيئ المطالع و الأعراض ؛ فإنْ جدّ فيها أدعياءُ العلم وفقهاءُ الثورات والمظاهرات فستغدو – إنْ لم تكن – ثكلىً ترثي عزّها ومجدَها ، وسينالها مِن عظيم النوائب والمحن ما لا طاقة لها به إلا أنْ يتولّانا الله – تعالى – بعفوه ورحمته .

إنّ أمماً وطوائفَ أنْزَلت علماءَها مراتب التبجيل والتقدير والتقديم ؛ فَعَلَتْ وتقدّمت وتماسكت على ما فيها من انحراف وضلال عن المنهج الرّباني الحق ؛ وأمّا أمة الإسلام فهي بالعلماء الراسخين ورثةُ الأنبياء فيها : إنْ تقدّموا وتصدّروا كان لها النصرُ والتمكين والأمن والبقاء ؛ وإلّا فالذّلّ والهوان اللذان هما سبيل الزوال والفناء .. ! .

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) : ' العلماء هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ؛ بهم يهتدي الحيران في الظلماء ، وحاجةُ الناس إليهم أعظمُ من حاجتهم إلى الطعام والشراب ' .

فعلى من رزقه الله – تعالى – سلامة القلب اتّباع ما يكونون عليه من الحق وتوقيرهم وتعظيم قدرهم ، ودفعَ الشبهات عنهم ما استطاع لهذا سبيلاً ، وكذلك بيان مذاهبهم وأحكامهم في النوازل الحالّة والفتن الجارية بالأمة اليوم ؛ فلا نترك الناس لأدعياء العلم وفقهاء الثورات يعيثون بعقولهم إفساداً وتحريفاً ! .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات