سرّية الأماكن


تبدو الاماكن احياناً وكأنها تمارس تنفسها الكوني لحظة اقبال الكائن الانساني عليها. وقد يبدو هذا التنفس جاذباً وقد يبدو منفراً.

وبعض الاماكن ما ان تقبل عليها حتى تشعر أن بهجة غامضة تلف كيانك وهي تدعوك كي تقيم فيها. فالبيت الذي تدرب على اقامتك وعشت فيه عشعش في روحك وقدم جغرافيته المتواضعة لفراشك ودلك بتوجه غريزي اين تضع غرفة نومك وفي اي اتجاه تضع رأسك وفي اي اتجاه تمد قدميك. وهو البيت ذاته الذي دلك على الجهات الاربع فقدم لك موقعك في الصالة وفي اي الاتجاهات يكون مقعدك لحظة استقبال الصباحات. وهو البيت ذاته الذي ما ان تقبل على بوابته حتى ينهض من فيزيائيته فتتحول عتبته الى بلاطة مستطيلة تهتز فرحاً بقدومك وهي تعدك بضجة البيت وجمالية حضوره.

البعض الآخر من الاماكن ما ان تطرق بابها وتدخل في مناخها البيتي حتى تهب على انفك روائح كئيبة ونائمة تحس بانها تمتزج بروائح كائنات غيبية تحاول خنقك وحينما تبحث عن الشمس في البيت لا تجد الا عتمة باهتة تلقي بظلها النهاري الثقيل على الاثاث وعلى تلك الصفرة التي تميز ملامح اهل البيت. وتشعر انّ كآبة المكان السرية هذه تنعكس على الحوارت المكتومة التي يقطعها صوت الصمت الطويل الفاصل بين الحوارات ، مثلما تنعكس ايضاً على طعم المشروبات والاطعمة التي قد يقدمها اهل ذاك البيت. وحينها تشعر بالاختناق وبالكآبة تنهب روحك وتنهض فجأة من مقعدك وتهم بالمغادرة من المكان الذي يطلق زفيره في وجهك بهذه الزئبقية اللدنة.

وفكرة الاماكن في المثيولوجيا الصينية واليابانية والآسيوية بشكل عام تحولت الى علم تتم دراسته وفق علاقة الجسد الانساني بموقعه الارضي وارتباط خصوصية هذا الجسد بالنجوم والكواكب ووفق علاقة تاريخ الميلاد بهذه الافلاك. وقد اظهرت الدراسة ان لكل مساحة جسدية انسانية مكانها الارضي السالب احياناً والموجب في احايين اخرى. وبناء عليه صارت بعض العائلات التي تنوي بناء بيت او شراء شقة تستعين باصحاب الخبرة في هذا المجال كي يعرفوا صاحبها على اتجاه بوابة البيت وعتبته وترتيب غرف النوم بما يتواءم مع ميلاد كل فرد من العائلة.

انها الاماكن التي نُقبل عليها دون ان نعي انها تتنفس بذاك الشهيق الكوني الذي علينا ان نألفه ونتدرب عليه. ولعل الحديث النبوي الشريف الذي يقول "غيروا العتبات ترزقون" هو بداية الخيط لهذه العلاقة السرية والغامضة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات