النظام الشمولي ..



 في بدايات الوعي أدهشت "الثورة الحمراء" قلوبنا.. فليس أعظم من ثورة الفقراء والمضطهدين على الأغنياء والمتغطرسين سلطة ومالاً وجاهاً. ومنذ ماقبل "سبارتاكوس" وثورة العبيد.. مروراً بثورة الزنج والقرامطة..وكومونة باريس...وإلغاء الرق بعد ثورات عظيمة في أميركا وغيرها.. وصولاً إلى ثورات القرن الماضي ورجالاتها الكبار.. غيفارا.. وفيدل كاسترو.. وماوسي تونغ.. هوشي مينه وغيرهم..
جميعها ثورات ملأت قلوبنا خيراً وتفاؤلاً وحماساً... وسلاما. إلا أنّ ثورة 1917 لم تعط بريقها لأية ثورة أخرى..

وشخصية لينين الكاريزمية ظلت جاذبيتها تلهم ملايين البشر في أصقاع العالم المختلفة..خصوصاً آسيا وأفريقيا.. القارتين الأفقر والأكثر تناقضاً (طبقياً) على الصعيد المجتمعي..وهو الأمر الذي راهن عليه لينين نفسه حين كتب (أوروبا المتأخرة.. وآسيا المتقدمة).. وتقدم آسيا يعني راهنية الاحتمالات الثورية .. والتغيير فيها أكثر من أوروبا .. آنذاك!!

في البدايات الأولى للوعي كنا نرى في قيصر روسيا وعائلته.. قبحاً طبقياً وشرّاً ضدّ الإنسانية جمعاء.. ولم يكن يشبه في مخيلتنا آنذاك سوى "الغول" في حكايا الجدة  أو الوحش الذي له عين واحدة.. وتقطر أنيابه بدم العذارى..

وحين كنا نأتي على إعدامه وأسرته المكونة من زوجة وست بنات وصبيّ مريض لم يبلغ العاشرة..كنا نتنفّس الصعداء آنذاك..وليس في الأمر غرابة أن نحدو نشيد الشبيبة الشيوعية آنذاك ( قسماً بالزهر.. بالسنابل) بفرح الانتصار.. فالرفاق حرس الثورة كانوا قد أعدموا ألدّ أعداء الشعب.. وظالميه..

فيما بعد ومع قراءات المرحلة الستالينية والتصفيات الكبرى في صفوف الفلاحين (أعدم أكثر من عشرة ملايين فلاح بتهمة أنهم برجوازيون صغار لم يتنازلوا عن أراضيهم للدولة السوفييتية..طوعاً وحباً!!).

وفي صفوف المثقفين (أعدم أكثر من مئة ألف مثقف بتهمة أنهم برجوازيون صغار أيضاً .. يطالبون بالحريات العامة  والديموقراطية الآتية من منظومة القيم الليبرالية)..

فضلاً عن تصفية رفاق لينين في المكتب السياسيّ واللجنة المركزية..

آنذاك كنا نردّد وراء القادة المحلّيين للشيوعية العربية شعارات تتعلّق بضرورات الصراع العالميّ مع الإمبريالية ومقتضيات بناء الدولة السوفييتية.. ومحاربة أعداء الداخل ـ الخونة الذين تنكروا لعظمة أكتوبر ومدّوا أذرعهم نحو الإمبريالية للتآمر على الوطن الأمميّ الأول.. وطن العدالة الاجتماعية.. وحكم الفقراء..

الوطن الذي تحوّل بغمضة عين إلى أنهار (عسل ولبن)!!

وظلّ إعدام القيصر وعائلته حكماً واقعياً لثورة قرّرت عدم الرجوع للوراء!!

وليس في الأمر غرابة أننا بقينا نحدو نشيد الشبيبة الشيوعية (قسماً بالزهر ..بالسنابل) بفرح ثبات الانتصار ويقين العقيدة !!

في مرحلة لاحقة ، ومع قراءات المرحلة الستالينية العربية.. وما أفرزته من  قادة (تاريخيين) انتهجوا (الطريق الاشتراكي!!) وأسسوا أنظمتهم على نفس الأسس التي سنّها ستالين ومن تبعه في كوبا وكوريا والصين.  بدأت التجربة الاشتراكية العربية تقدم إفرازاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. والتي يمكننا اليوم اختصار هذه "المفرزات" جميعها بأنها كانت كارثة حياتية وابتلاء شعبيّ أين منه ابتلاء "أيّوب" ذات يوم !!

إذ أنها تجربة عممت ظاهرة "الدولة الأمنية" التي يحميها مخبر قبيح..وموظف بلا ملامح.. وشرطيّ رخيص.. وحذاء عسكري بحجم مساحة (الوطن).

ظاهرة الدولة الأمنية قضت على ملامح مشروع الدولة الوطنية القائمة على الحريات العامة ومفهومي الاستحقاق والجدارة.. وجعلت من قيم الوطن والمواطنة.. آخر همومها!!

الدولة الأمنية جعلت من الدولة الوطنية حلماً أقرب للوهم بعد إفراغ المجتمعات من حقيقة الانتماء الوطنيّ من جهة وتعهير شعارات الأمم الطموحة من خلال تبني أقبية الحكم الشمولي لهذه الشعارات من جهة أخرى.

في هذه المرحلة من الخواء الوطني..عادت حادثة إعدام القيصر وعائلته إلى أذهاننا لنقرأها من جديد..

القيصر كان قد تخلى عن أية سلطة في عام 1916.. وأخذ عائلته وعاش في سيبيريا ضمن منزل أقل بكثير من (القصر)..

فزوجته امرأة تقترب بحياتها اليومية من التصوّف وهي بعيدة كلّ البعد عن مباهج حفلات القصور وعربدتها..ووليّ عهده- ابنه، مريض بالناعور.. وأقلّ جرح يمكن أن يودي بحياته..ولم يكن آنذاك قد بلغ العاشرة من عمره.. أما بناته الست فهن أبعد ما يمكن عن السياسة وتداعيات الحكم.. 


لينين لم يعدم القيصر إبان الثورة.. وإنما أقفل عليه منزله في سيبيريا..وطلى نوافذه بالأسود..وأعطى القيصر ساعتين (تنفس ) وحيداً دون عائلته في مساحة لا تتجاوز العشرين متر مربع..يومياً!!

انتهت الحرب الأهلية.. وكذلك الحرب العالمية.. واستتب الحكم للثورة..

في ليلة 17 تموز عام 1918 دخل "الحرس الثوريّ" إلى منزل القيصر.. وسجّلوا ما بقي مع العائلة من مجوهرات وذهب.. واقتادوهم إلى القبو.. وتم إعدامهم!!

ليس مهماً أنهم حاولوا إحراق الجثث إلا أن طراوة اللحم منعتهم..

وليس مهماً أنهم دفنوا في مقبرة جماعية.. اكتشفت بعد أكثر من سبعين سنة..

المهم في الأمر أنّ ثورة العدالة والسلام للإنسانية جمعاء.. بدأت باكورة خيرها وسلامها بجريمة تقشعرّ لها الأبدان..

ويبدو هذا الأمر أيضاً غير مهمّ.. إزاء حماقة الملايين التي رفضت أن ترى في هذا القتل.. فعلاً جباناً وقبيحاً..

فعلاً كفيلاً بإسقاط شرعية أية ثورة أو حكومة أو دولة!!

وربما المهم أيضاً أنّ تلك الجريمة قام بها لينين.. الزعيم المنتصر.. والمفكّر العالميّ الذي تحوّلت نصوصه إلى ما يشبه كتب السماء عند أتباعه..

تلك الجريمة لم يقم بها ستالين!!

كذلك .. فإنّ ستالين لم يلغ الأحزاب ويمنع التعددية السياسية.. هذه أيضاً كانت صناعة لينينية بامتياز!!
ستالين أكمل طريق لينين بكل اجتهاد وحرفية التلميذ النجيب.. وربما بكلّ بشاعة التقليد وعتهه..أكمل ستالين طريقاً فرّخ لنا "ستالينيين" كاريكاتوريين.. لعبوا لعبة الحكم الميكيافيلية بتفنّن إلى الحدّ الذي تحوّلت معه شعوب بكاملها إلى قطعان اعتادت الثغاء والهتاف لإطالة عمر الزعيم الخالد.. والحزب الحاكم.. ودوائر المخابرات وهي تسير وفق (نظام منظم) .. نحو المسلخ !!
مؤخّراً تمّ ردّ الاعتبار إلى آخر قياصرة روسيا وعائلته وتمّ اعتبارهم ضحايا حملة القمع السياسيّ البلشفية، عن طريق "رئاسة المحكمة العليا " أعلى هيئة قضائية في روسيا، والتي أقرّت بعد سنوات من معركة قضائية، أنّ القمع الذي تعرّض له القيصر نقولا وعائلته لم يكن مبرراً وأنهم ضحايا القمع السياسيّ البلشفيّ.

بعد ما يقارب القرن على تلك الجريمة تم الانتصار للقيم الحضارية والإنسانية وللحريات العامة والديمقراطية، وإن كان انتصاراً رمزياً.. لكنّه يحمل الكثير من الدلالات الكونية.

إذاً بعد قرابة القرن تمّت محاكمة رموز النظام الشموليّ، وأخشى أننا بحاجة لنفس الزمن لنحاكم (الكاريكاتورات) الشمولية التي فرّخت عندنا أصولية إسلامية عربية تلوّنت بالسلفية والقومية والشيوعية، وأفرزت أشاوسها التاريخيين لاستباحة كل ما هو جميل وحقيقيّ في عالمنا.
عن (الاوان)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات