خطبة الجمعة .. بين الواقع والمأمول


خطبة الجمعة هي مائدة الغذاء الروحي الإيماني الأسبوعية لجماهير المؤمنين ،فشأنها في الإسلام عظيم، و لها أهمية كبرى وفائدتها كبيرة ونفعها عميم ، فهي إحدى أهمّ وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا، وهي من أهم وسائل التربية والتوحيد والتأثير، لذا فقد كانت جزءاً من مهمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوة أقوامهم إلى توحيد الله جل وعلا وطاعته، وتحذيرهم من غضبه وبطشه، وأليم عقابه، ليقلعوا عمّا هم عليه من ضلال وفساد عقدي، وخلقي، واجتماعي. والأدلّة والشواهد من الكتاب والسنّة في بيان أهمّيتها وفضلها ومكانتها في الإسلام كثيرة و وفيرة، أكثر من أن تُستقصى في هذا المقال،وما من مسلمٍ إلاّ ويعلم مكانتها في الإسلام.
وأما أهميتها بالنسبة للخطيب فلكون حضورها لازماً والاستماع لها متعيناً فإنّ ذلك يتطلّب منه الاهتمام البالغ والعناية التامّة بخطبته، فيبذل جهده في وقت مبكّر لإعدادها الإعداد الذي يستوفي فيه جوانب الموضوع مع الإختصار ومع استشعاره أيضاً عموم نفعها وعظيم أجرها وثوابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) رواه مسلم، ومن المهمّ جداً العناية بإيراد الأدلة من الكتاب والسنّة وآثار السلف والرجوع إلى الكتب التي تُعنى بجمع الآثار عن السلف في مختلف الموضوعات لا سيما الكتابات الحديثة التي تعنى باستخراج تلك الآثار من الكتب الواسعة والمختلفة، مع ضرورة عصرنة الطرح وإحاطة الخطبة بالواقع الذي يعيشه الناس اليوم وتقديم المعلومة الجديدة والمفيدة والملامسة للواقع، لأنّ خطبة الجمعة عامل أساسي من عوامل تغذية الإيمان وشحذ الهمم وشحن القلوب، فلا يخرج المسلم من المسجد إلاّ وقد تأثّر إيجاباً من الخطبة وتزوّد بالعلم والإيمان وتجدّدت لديه الطاقة الإيمانية.
و إنّ لخطبة الجمعة - لو قُدِّرَت قدرها - أثرًا عظيماً، فبها يمكن أن تحدث تبدّلات وتحوّلات في الأمة، وعن طريقها يمكن أن يصلح فئام من الناس، إذ الشارع الحكيم لا يشرّع أمرًا إلا لحكمٍ وغايات، ومقاصد وأهداف، فهي تتميز بمزايا، وتختص بخصائص لا تتوفر في أي نوع من أنواع الخطب الأخرى، حيث إنها تمثل شعيرة من شعائر الإسلام، وتتم في جو مهيب خاشع تتهيأ فيه النفوس للتلقي والاستماع، ويشعر المسلم فيه أنه في صلاة وطاعة لله جل وعلا، كما أنها تتميز بوجوب الإنصات إلى الخطيب، وعدم التشاغل عنه.
وخطبة الجمعة تبقى هي المنارة للمسجد، وهي الجامعة والمدرسة التي يجتمع إليها أفواج المسلمين، يتعاضدون على الحق، ويتناصرون عليه، يذكّر بعضهم بعضاً، ويقوي بعضهم بعضاً، ويعلّم بعضهم بعضاً، وتتقوى بينهم الأواصر وتتوثق العلاقات، وتتوطد أسس التعارف بهذا اللقاء الأسبوعي المتكرر، وكلما جمعت الخطبة مقومات النجاح كانت أعظم أثراً، وأكبر وقعاً على نفوس المصلين بمختلف فئاتهم ومستوياتهم، وتكون وسيلة قوية لها أثرها في أرض الواقع.
ومن المؤسف ـ حقاً ـ أنّ (بعض) الخطباء لا يفقهون ولا يدركون هذه المعاني الجليلة والسامية لخطبة الجمعة فترى أحدهم يقوم على المنبر يتكلم للناس ويخرج الناس من حوله وكأنهم لم يسمعوا شيئاً أو لم يحضروا خطبةً إلاّ أنهم سمعوا صراخاً وتكراراً للمواضيع قد حفظوه عن ظهر قلب،وبعضهم يقوم بجلد الذات فتراه يجلد المصلين في خطبته ويرميهم بسهام أحكامه ممّا يثير الإضهاد النفسي والقهر القلبي لدى المستمعين فتتحوّل قلوبهم وأفئدتهم خارج المسجد بدل أن يوجهها الخطيب صوب محراب الإيمان ليعيش بهم لحظاتٍ إيمانيةٍ تنقلهم إلى عالم الروحانية الإيمانية الربّانية خصوصاً في هذا الزمن الذي طغت فيه المادّة على الروح وابتعدت فيه القلوب عن علاّم الغيوب وتطاولت فيه أمم اللمم على خير الأمم.
أشعر بمرارةٍ حينما أسمع بأنّ خطيباً صعد المنبر وصار يخاطب الناس بصوتٍ جهوري وكأنه في ساحة معركة وقد حمي الوطيس ويقول: يا معشر من لم يصلّ الفجر هذا اليوم جماعةً مع الإمام أُبشّركم !! ثم يردد (أبشّركم) !! والناس كلهم قد شخصوا إليه بأبصارهم وأعاروه أسماعهم !! ثم يضرب بكلتا يديه على خشبة المنبر ويصيح من جديد (أبشّركم .. أبشّركم) بأنّكم خارجون من ذمّة الله اليوم فلا عهد ولا أمان لكم عند الله.!!!!
يا الله .. كم حطّم هذا الخطيب من نفوس .. وكم نفّر هذا الكلام من قلوب .. وكم هبّطت هذه (البشارة) !!! من هِمم.؟؟
بشّروا ولا تنفّروا .. هذه هي دعوة الإسلام التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم والتي ملأت طباق الأرض وبها انتشر الإسلام في كل أنحاء العالم حتى وصل عدد المسلمين اليوم في الصين إلى 280 مليون مسلم.
ماذا يضير هذا الخطيب لو قال للناس مبشّراً ـ حقّاً ـ ومذكّراً بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أنتم توفون سبعين أمّة أنتم خيرها وأكرمها على الله) وبالأثر في قوله للصحابة الكرام ( أنتم في زمانٍ لو تركتم فيه عُشر ما أُمرتم به لهلكتم ! وسيأتي على أمتي زمانٌ لو عملوا فيه بعُشر ما أُمروا به لنجو) ثمّ ذكّرهم ووعظهم باللطف واللين وخاطب قلوبهم ودخل إلى أرواحهم بحسن كلامه ووعظه وخطبته ليخرجوا من المسجد وقد ارتاحت واستراحت أنفسهم وشحنت بالإيمان قلوبهم.
لا شكّ أنّ خطابنا الديني اليوم بحاجةٍ إلى مراجعات وإعادة قراءة من جديد،وخطباء مساجدنا بحاجةٍ إلى وقفةٍ مع النفس يراجعون فيها عظمت هذه المسؤولية الكبيرة على أعتاقهم وأعناقهم.
يقولون في فنّ قيادة المركبات: السياقة فنٌّ وذوقٌ وأخلاق .. هذا لمن يسير في الطرقات ليصل إلى برّ الأمان بسلامة.
وقيادة المنبر بحاجةٍ إلى الفنّ والذوق والأخلاق .. لنصل بأمتنا عبر طريق السلامة إلى برّ الأمان وسبيل النجاة .. فما كان المنبر في تاريخ الإسلام إلا قائداً للأمّة ومعلّماً وموجّهاً لها وسالكاً بها طريق السلامة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات