رواية رغبة الإنتقام .. الجزء الثالث


نظرت ندى من بين قضبان نافذت سجنها الى السماء المرصعة بالنجوم البراقة، سالت دمعتها من مرارة الموقف...طبيبة لها قيمتها في المجتمع بين ليلة و ضحاها في سجن انفرادي مُعْتِمْ تنتظر سجانة لتنادي على اسمها حينما يرق قلب المحقق لإستكمال التحقيق معها، ما أصعب الموقف عليها، و الأَمَرْ مِنْ هذا كله أن التهمة هي الشروع بالقتل؟! و مع غَصًةْ الحزن التي شعرت بها أَلًمَهَا الجرح في ذراعها فجأة...وضعت يدها عليه و بكت بمرارة كبيرة من الوجع و شِدَةْ الموقف...ركعت في مكانها و بكت بقوة فأصدرت صرخاتها أصداءا في الزنزانة التي كانت بها...فكرت في ذاتها و هي تبكي "أنا في كابوس مروع...أنا أكيد في كابوس و سأستيقظ منه بعد قليل..." وقفت في مكانها و نظرت نحو الباب الحديدي و الدموع تنساب بكثرة من مقلتيها...هرعت نحو الباب و طرقته بقبضة يدها قائلة "اخروجوني ارجوكم فأنا طبيبة محترمة...ارجوكم انا بريئة...أريد ان اخرج..."

لم يجبها الا صدى صوتها بين الجدران الباردة الموحشة، اتنشرت شهقات بكائها لفترة من الزمن في الأجواء ثم هدئت قليلا، أحست بعد برهة من الزمن بأحد يحرك مفتاح باب السجن فنهضت و استدارت نحو الباب لتلاقيها سجانة شابة ممسكة بصينية طعام ، كان عليها وعائين و بعض الخبز، اعطتها السجانة الصينية قائلة بنبرة آمر "خذي الطعام"
أجابت ندى مترجية "هل تعيدينها...ليس لي شهية للطعام"
أجابتها محذرة "هذا شأنكِ يا شابة...و لكن إن اعدتِ الصينية فارغة قد تغضب منكِ مأمورة السجن و قد تعاقبكِ"
نظرت الى السجانة و قالت برجاء "انا حرة فلا أريد أن آكل شيئ...أكاد أن اختنق هنا...ثم ماذا ستفعل بي المأمورة..."

قالت السجانة مستهزئة "يبدو انك من المستجدات يا حبيبتي...ستعرفي قريبا حينما أعيد الصينية، و لكن إن نادتك المأمورة الى مكتبها لا تقولِ أنني ما حذرتك من الفلقة..."

استدارت السجانة و سارت نحو الباب، خافت ندى من تحذير السجانة و كلماتها الجافة، فقالت أخيرا مترجية "ارجوكِ توقفي..."

نظرت اليها السجانة بنظرة متسائلة لتقول لها ندى "غيرت راي اعيديها لي"،
اعادت الصينية لها بصمت و أغلقت باب السجن...سارت ندى الى زاوية من زواية الزنزانة و صوت طقطة قفل الباب تملئ الأجواء، جلست على الأرض الباردة و وضعت الصينية أمامها، كان هنالك نور خافت من سناء القمر ينير بعض زوايا الزنزانة فكان البدر مكتمل في تلك الليلة، كانت كهرباء السجن مقطوعة كالعادة في هذا الوقت من المساء، عادت الدموع الى عينيها و هي تزيل غطاء الوعاء الأول و النور يكاد ينير المكان، كان هنالك بعض من حساء الخضار، و الوعاء الثاني كان يحتوي على وجبة من الأرز، امسكت الملعقة و حركتها في الحساء قليلا ثم أخذت رشفة منه، كان دافئا و لكن من دون مذاق مميز...ألحقت رشفة الحساء بملعقة من الأرز و مضغتها ببطئ، كان الأرز جاف و شعرت بشيئ يابس يتكسر تحت اسنانها و لكن لم تأبه له، فكانت تعلم أنها في سجن لا فندق من فئة الخمسة نجوم، أخذت بعض رشفات من الحساء و بعض الملاعق من الأرز لتشعر بإرتياح قليلا من الطعام...فتبين لها بعد هذه الوجبة كم كانت جائعة و لكن الغضب و الإحتقان من ظروفها جعلها تنسى جوعها لبعض الوقت، فجاة شعرت بشيئ صغير يمشي على ظهرها، نهضت مفزوعة من مكانها و صرخت بشدة و هي تتلوى و تحاول بيديها الإمساك به من وراء ظهرها، و بعد عدة محاولات لم تفلح بها شعرت به يصعد على كتفها، ضربته بيدها ليطير نحو النافذة و يستقر على الارض، فتيبن من سناء القمر المُطِلْ من النافذة انه صرصور كبير، خلعت ندى نعلها و ضربته و هو يسير على الارض فقتلته على الفور، سال الدمع من عينيها حينما نظرت على الارض و رأت بعضا منه تسير من حولها، تذكرت ملاعق الأرز و الُلقَمْ اليابسة التي كانت تتكسر تحت اسنانها...شعرت فجأة برغبة بالإستفراغ...حاولت السيطرة على ذاتها فلم تستطع...بل أحست بثورة في امعائها و زادت رغبتها بالإستفراغ مع منظر الحشرات و هي تسير من حول نعيلها على الارض...هرعت الى زاوية من زواية السجن و بدأت بإستفراغ الطعام التي تناولتها للتو...تدفقت السوائل الحارقة في حلقها و انسكبت من فمها على الأرض بلا رحمة...بَكَتْ من شدة الألم و القهر و هي تستفرغ طعامها...ثم هدئت لبضعة ثواني، رأت صرصور آخر يسير أمامها على الأرض و يصعد فوق ما إستفرغته...خلعت نعلها من جديد و ضربت الحشرة و هي تبكي بشدة ثم اسرعت الى باب السجن و نادت بقوة "ارجوكم أخرجوني من هذا الجحيم...أنا طبيبة محترمة...سأموت هنا بهذه الزنزانة..."

أطلت عليها السجانة من الباب و قالت لها "و هل تظنين أننا سنحجز لكِ بالشيراتون..هيا نامي و تستطيعي أخبار المحقق بما تشائين في الغد..."

فجاة أستيقظت ندى من نومها و هي ترتجف من الخوف، كان كابوس مُرَوِعْ جدا، كانت تلتقط أنفاسها بصعوبة و كأنها تتخبط كالغريقة بين أمواج بحر عاتية...أمسكت بمنشفة قريبة منها على السرير و جففت العرق المنهمر من على جبينها...بل تبين لها مع زيادة صحوتها من النوم أن العرق يبلل ثياب نومها بالكامل، نظرت نحو السماء الصافية من خلال نافذت غرفة نومها...و لكن هذه المرة لم يكن هنالك قضبان حديدية تحجز حريتها، قالت "الحمدلله فكان كابوس مروع و ذهب لحال سبيله...الحمدلله..." نهضت من السرير و نظرت الى ساعة الحائط و إذ بها تشير الى السابعة مساءا،
أمسكت سماعة الهاتف و طلبت رقم الخلوي لسامح الشاذلي الذي طلب أن يحقق معها بالقضية، فأجاب خط الهاتف رجل بكلمات "مساء الخير مركز أمن..."
قاطعته قبل أن يكمل تحيته "السيد سامح الشاذلي؟"

"نعم"
"تحياتي، معك الدكتور ندى الأسيوطي..."
"أهلا و سهلا، كيف حالك يا دكتور..."
"اتصلت بي المستشفى اليوم مساءا و أخبرتني بالحادث المؤسف عن وفاة عبدالجبار فاضل..."
"دكتور ندى توفي هذا الشخص بجرعة زائدة من المورفين...هكذا تبين من فحصوات الطب الشرعي..."
"سأكون عندك بعد ساعة من الآن..."
"دكتور ندى موقفكِ صعب قليلا من القضية...بالرغم من سجلك المشرف إلا ان بصماتك كانت على الحقنة التي احتوت على المورفين...أنا آسف و لكن علي قول الحقيقة لكِ لكي تستشيري محامي و هذه ابسط حقوقكِ،"
تذكرت الكابوس الذي استفاقت منه للتو، ذرفت عيناها الدمع و هي تسمع تحذيرات سامح فتبين لها بأنه قد يتحقق قريبا، ترددت قليلا من الخوف و لكن بعد برهة من الزمن أحست بقوة غريبة تتسلل الى عالمها و تبدد هذه الضغوطات التي استجدت بحياتها...استجمعت قوتها من جديد و زادت ثقتها بنفسها، فأجابت "أنا سجلي مشرف و قد أنقذت حياة عبدالجبار من الموت...ثم وجود بصماتي على حقنة بغرفة مريض ليس دليل كافي بأنني قتلته لأنه من الطبيعي أن نتعامل ككادر طبي مع هذه الأدوات في عملنا..."

"مازلنا بمرحلة التحقيق و قد تنكشف لنا بالغد أمور جديدة و كثيرة...فإذا راودتنا بعض الشكوك عنك هذا لا يعني أنني نتهمك باي شيئ يا دكتور..."
أجابت بثقة أكبر "سيد سامح، أنا لم اقتل هذا الشخص و ليس عندي ما أخفيه او أخاف منه و سرت طوال حياتي بالنور لا بالظلمة و عندي سجل طبي مشرف يتشفع لي عندكم، أنا قادمة إليك،"
****************
أغلق سامح الخلوي و نظر الى ملف القضية امامه، ففكر في ذاته "صوتها صوت إنسانة بريئة، ثم هذه الإنسانة تتمتع بسمعة مهنية عالية...فحتى لو علمت أنه قاتلها هل سترتكب عمل ساذج و تقتله؟"
أخذ سيجارة من علبة دخان كانت أمامه على المكتب و اشعلها، نفخ بعض الدخان في الهواء ثم أكمل التفكير "و ربما قتلته بلحظة غضب؟ نعم فهذا سيناريو ممكن..."
نهض من على مكتبه و هو بتفكير عميق "عَلِمَتْ من الشرطة بأن الذي أنقذته كان قاتلها، فتملكها غضب كبير من هذه الانباء....بالنهاية الدكتورة ندى إنسان و قد تكون عرضة لإنفعلات كثيرة مثلها مثل سائر البشر...فالطبيب و إن كان صاحب روح مهنية عالية ليس بملاك و قد يخطئ او يرتكب المعاصي..."

نفض بعض من رماد السيجارة في المرمدة على مكتبه و أكمل مَسيرَهُ بالغرفة، كان يعلم أنه في قرارة نفسه يشعر بتعاطف شديد مع ندى، "موقف صعب يا ندى و لكن اعدك...لكي يكون ضميري مرتاح...أعدكِ بالتأني كثيرا قبل ان اوجه لكِ الإتهام...اعدك بالحذر التام،"
فجأة رن جهاز هاتفه الخلوي، فأجاب "سامح الشاذلي يتكلم"
أجاب المتصل بتوتر "سيد سامح...هنالك مستجدات في قضية عبد الجبار فاضل أحببت ان أطلعك عليها نظرا لخطورتها..."
"من المتكلم من فضلك؟"
"أنا نقيب فتحي كامل من المختبرات الجنائية"،
"تفضل يا زميلي العزيز..."
بصراحة و فريقي يقوم بمسح دقيق لغرفة القتيل بالمستشفى بالأمس العابر اكتشفت بعض من نقاط الدماء على الارض بجانب سرير عبدالجبار، و ايضا لاحظت اثار خفيفة جدا و لكن واضحة من الدماء على الحقنة التي استخدمت لقتل المريض، و قمت من باب الحيطة و الحذر بتحليل العينتين فتبينت أنها من نفس الفصيلة B+"
"و ما الغريب بالدماء بغرفة المرضى يا سيد فتحي..."
فكر سامح لبرهة من الزمن ثم قال "أأأه ه ه فهمت..."
أكمل فتحي "هذه الدماء ملوثة و مريضة بفايروس خطير...الذي أمسك الحقنة و قتل عبدالجبار كان يعاني من فايروس جعله ينزف و ترك اثار الدماء من دون ان ينتبه على الأرض و على الحقنة...ربما من شدة ارتباكه و توتره..."
"ما نوع هذا الفايروس!"
"هنالك أمر يجب أن اطلعك عليه ايضا، الجريمة حدثت بالأمس سيد سامح، و عينة الدماء تقول لي أن الجاني كان مريض جدا و المرض في مراحله المتقدمة حيث يظهر العارض الصحي بوضوح على المريض...هذا العينة لشخص صحته متعبة جدا...يعني من المستحيل أن يبقى المريض من دون مشفى الى اليوم،"
صرخ سامح بأعلى صوته "ماذا تقول؟!"
"التحليلات المخبرية لا تكذب...يا ليتك لو انت معي الآن لترى بعينيك نتيجة المختبر،"
آمر بغضب شديد "ما نوع هذا الفايروس!!!"،
"مع كل أسف الإيبولا،"
أجاب بغضب شديد "سنتخذ كافة الإجراءات فورا و سنخبر وزارة الداخلية و الصحة!!!"
أغلق سماعة الهاتف و عاد الى مكتبه، فتح ملف القضية من جديد و إطلع على بعض البيانات الشخصية لندى...فلهث لسانه أن دمائها B+...و لكن شاء القدر أن ينقذها من حبل المشنقة...فالدكتور ندى مثقفة بما يكفي لتقي نفسها من هذه الأمراض...يا ساتر يا الله فهنالك ناشر للإيبولا بالقاهرة يسير بكل حرية بين الناس...يجب التصرف بسرعة..."...يتبع



تعليقات القراء

نور ......
رواية جميله ننتظر الجزء الرابع بفارغ الصبر
11-05-2015 08:38 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات