خواطر عن فلم السفارة في العمارة و تحليل درامي عميق عنه


فلم كوميدي من فئة فارْس ( Farce) تم عرضه لأول مرة في سينما طيبة في 19 يونيو 2005، و هو من إخراج (مع حفظ الألقاب) عمرو عرفة و تاليف يوسف المعاطي، و من بطولة عادل امام و داليا البحيري و أحمد راتب و لطفي لبيب و خالد سرحان و سعيد طرابيك و أحمد صيام مع مجموعة لامعة من الفنانين المصريين.
 
مما لا شك به أن هذا الفلم هو من أروع ما قدم عادل امام من فئة الافلام الكوميدية نظرا لدسامة الحبكة التي يتمتع بها و لعله كان نجاح ساحق لجميلة الدراما المصرية داليا البحيري، فيمتاز عمل الفارْس في الكوميدية بأن تتخلله سلسلة من الأحداث المبالغ بها التي تصاغ غالبا بإطار خيالي بعيدا عن ما يمكن توقع حدوثه على أرض الواقع، و تتضمن قصة الفارس سلسلة من الأحداث و الحبكات الدرامية المعقدة و المتتالية بحيث قد تربك المشاهد من كثرتها و من الأحداث العديدة التي تتواتر في الرواية، قد يمتاز الفارس ايضا بالكوميدية الحركية التي تنتج عن فعل او حوادث جسدية تثير الضحك يختبرها أبطال العمل و ايضا الجُمَل و المواقف التي تمتاز بالحماقة او اللامعقول و الغير منطقية، تتمتع هذه الفئة من الكوميدية بالأداء الدرامي المتين لتبلغ الرواية ذروتها الكوميدية المرجوة،
يروي هذا الفلم قصة رجل مكافح اسمه شريف خيري، فبعد غربة 23 عام عمل بها مهندس للبترول مع شركة في دبي تجبره ظروفه أخيراً على العودة الى الوطن بعد فضيحة جنسية ارتكبها مع زوجة مديره، فشريف بالرغم من أنه مهندس و رجل راشد إلا أن أهوائه مع النساء كثيرة جدا، هو بحقيقة الأمر شخص مسالم يسعى للقمة العيش و لكنه عبثي في حياته العاطفية يعيش على هامش قصص الحب عن طريق العلاقات العابرة و اللذة الجنسية المؤقته التي يبنيها فقط على اساس المتاع الجنسي مع عالم المرأة، و هو صديق لطفل فلسطيني يسكن معه في دبي حيث يتمتعا مع بعض بعلاقة قوية جدا.

بعد هذه الفضيحة التي كلفته وظيفته يَحْزِمْ شريف امتعته ليعود الى دياره مصر ظناً منه أن سنين التعب و الكفاح ستنتهي بعد طول الغياب و الجهاد المهني في غربته المريرة، و لكن يحدث اللامعقول منذ أن يصل الى مصر، فحينما يحاول دخول حرم البناية التي يمتلك فيها شقة سكنية يتفاجئ بحراسة شديدة و حاجز أمني، فيصيبه الذهول حيث لا يفهم في بادئ الأمر سبب كل هذه الإجراءات الأمنية، و سرعان ما نراه يعاني من توابع هذه الحراسة المشددة حيث تعترض الحراسة في بادئ الأمر على زيارة صديقته الأجنبية التي تعمل مضيفة و التي تعرف عليها اثناء رحلة العودة الى الوطن لينتهي بها المطاف في شقته كعادته مع النساء، و يتضايق من إجراءات التفتيش التي تؤخر صعوده مع أمتعته الى المنزل، و لكن بعد بعض المكالمات من قِبَلْ مسؤول الأمن في البناية يتمكن مع صديقته من بلوغ شقته أخيرا. 

نرى شريف في بداية مشاهد هذا الفلم يزور ثلاثة اصدقاء له في عوامة بحرية بعد عودته الى أرض الوطن، فصداقته معهم لم تنتهي رغم سنين الغربة الطويلة، فيتفاجئوا الثلاثة بقدومه الى العوامة حيث يستقبلوه بالتحيات و الترحاب و العناق و صيحات الفرح البهيجة، الثلاثة رفاق هم مِنْ الطبقة المكافحة و لم تتغير ظروفهم منذ سفر شريف الى دبي بعكس شريف الذي هاجر و كافح الى أن تحسنت ظروفه و أوضاعه في بلاد الخليج، و هذا بَيِنْ من كلامهم عن ظروفهم و عن أوضاعهم المعيشية خلال أحداث الفلم.
 
مع مرور مشاهد الفلم يتعرف شريف خيري على اسباب وجود الحراسة في بنايته فيتفاجئ بِعَلَمْ الدولة الإسرائيلية يرفرف على مقربة من نفاذة شقته حينما يطل الى خارج الشقة، فيصاب بنوبة غضب شديدة، لنتوقف هنا عند أول خاصة من خصائص هذا الفلم الذي يجعله ينتمي لفئة الفارْس بإمتياز، فمن منا إذا أغترب عن أرض الوطن و سافر سعيا وراء لقمة العيش تاركاً وراءه شقة في بناية أو ربما عقار لسنين عديدة ثم أُجْبِرَ على العودة الى دياره يتوقع أن يعود ليجد سفارة بجانب شقته؟ و ليست اية سفارة عادية بل سفارة مثيرة للجدل مثل السفارة الإسرائلية و هي لبلد لا يتمتع بالترحاب الكبير بالشارع العربي إطلاقا، فهذه الحبكة هي بعيدة عن أي واقع يستطيع الإنسان تخيله على الإطلاق...سفارة لدولة غير مرغوب بها في عموم الشارع المصري بجانب شقة سكنية ربما تكون هي الوحيدة التي بقيت مسكونة بالعمارة برمتها...فهذه النقطة لم يأتي الفلم على معالجتها و لكن نستطيع التكهن بذلك من خلال سياق أحداث الفلم، و ينتج عن هذه الكارثة لقاء ساخر بين شريف و السفير الإسرائيلي، فيخرج شريف غاضباً من شقته بعد هذا الإكتشاف و يصعد داخل مصعد البناية ليجد رجل غريب عنه، فيبوح له عن غضبه من السفارة و يطلب منه جهارا مقاطعة موظفين السفارة، فيكتشف فورا بأنه السفير الإسرائيلي.
 
نرى شريف خلال أحداث هذا الفلم ثائرا بسبب الإجراءات الأمنية التعسفية بحقه، فحينما يستيقظ في أولى أيام سكنه في شقته لا يجد ماء ليغسل وجهه و لا اسطوانة غاز بجانب الطَبًاخْ بالشقة ليغلي بعض من الماء للفطور، و لا حتى أدوات مطبخ أو سكين ليقوم بتقشير الفواكه التي اشتراها، فيرتدي ثيابه ليخرج من المنزل بعدها و هو غاضب جدا و لكن ليتفاجئ بوجود رجال أمن مفتولي العضلات في خارج شقته يمنعوه من الخروج بسبب وجود اجتماع بالسفارة، يشكل هذا الأمر مضايقة كبيرة له حيث يشعر بأن العيش بهذه الشقة مستحيلة مما يدفعه لمقابلة مسؤول رفيع المستوى بالأمن المصري.

مما لا شك به أن واقع وجود السفارة في حياة شريف خيري هو أمر أقوى منه، فهذه ترتيبات أمنية فُرِضَتْ عليه بحكم العلاقات الثنائية التي باتت جزءا من الحياة السياسية للدولة المصرية و حيث شاء قدره أن تكون سفارة إسرائيل جارته بالشقة المجاوره...واقع مؤرق حاول نقاشه مع المسؤول الأمني ليكتشف بأن موقف الدولة راسخ يحثه على ضرورة التأقلم مع واقعه الجديد، فيقول له المسؤول الحقيقة المُرًة...بأن بلاده لا تنوي تفعيل اية حروب قادمة مع هذا الكيان...و بأن في حرب 73 استردت مصر حقها في قناة السويس و طابا و أصبحت حق شرعي لهم كدولة و فرضت الدولة المصرية شروطها بمعاهدة السلام...فلذلك الدولة تتوقع منه أن يعامل جيرانه بصورة أفضل من التي رأها منه السفير الإسرائيلي، و لكن بالمقابل يخبره المسؤول الأمني بأنه إذا احتاج لأي شيئ يمكنه الإتصال به في اي وقت و سيلبي كل طلباته، و يعده بأنه سيسهل أمر دخول خليلاته الى منزله،
في حقيقة الأمر يحاول شريف المضي قدما بحياته بصورة واقعية أكبر، فبعد هذا الإجتماع يكتشف كم أن مقاومة هذا الواقع صعب عليه، فيعود الى حياته التي تتخللها مغامرات عبثية مع جنس النساء...نقطة ضعف جوهرية بحياته كرجل، فحينما يعود الى المنزل بعد المقابلة مع المسؤول يكتشف بأن مائدة صالته مليئة بما لَذً و طاب من الأطعمة، فترتسم علامات الرضى على وجهه و هو يراقب هذه المائدة الملوكية التي وهبتها له الأجهزة الأمنية، و يذهب الى نادي ليلي تتردد عليه بنات الليل، و يتقرب من إمرأة جميلة و جذاية و ينجح بجعلها توافق على رفقته الى منزله ليلا بعد حديث خفيف الظل يتسم بالجرأة...و نرى هنا مشهد يعالج بأسلوب ساخر للثنائي داخل الشقة...فنراهم يرقصان في المنزل بصورة ساخرة خفيفة الظل و من ثم ينزعان ملابسهما للخلوة في غرفة النوم...و هنا لي كلمة حول هذه المشاهد الجنسية التي غالبا ما تقابل بالصدمة في صحفنا العربية...
لا أقصد الخروج عن الإطار العام لأجواء هذه المقالة و لكن لا بد لنا من وقفة عند بعض من النقاط الهامة هنا، في الحقيقة أن العديد من الفئات الكوميدية في الأفلام عموما تحتمل اللغة الجنسية في خلال سياق حبكتها الدرامية، فهنالك العديد من المواد الأدبية التي تمت كتابتها و العديد من الأفلام التي تم انتاجها على سبيل المثال لا الحصر من فئة السَاتَيِرْ (Satire) في أمريكا و بلدان شتى حول المسكونة تحتوي على مواد و لغة جنسية كمكون من مكوناتها كرواية و لكن ليست لأسباب عبثية، فنحن نتكلم هنا عن فئات كوميدية كثيرة لكل منها أصولها و مبادئها، فإذا أردنا المضي قدما بهذا النوع من الأدب سيفتح لنا أفاق كبيرة للأبداع الروائي و لكن قلم الأديب يجب أن يكون ماهر و مبدع بصياغة رواية لها بداية و حبكة و نهاية ضمن ما يسمح به الإطار الأدبي للرواية، فبالرغم من أن الساتير و الفارْس و غيرهم من الفئات الكوميدية يندرجوا تحت الكوميدية بصورة عامة إلا أن لكل فئة كوميدية استقلاليتها و لذلك يجب أن تتمتع أقلام الأدباء بحرفية عالية و هي تصيغ السيناريو أو الرواية، السيناريوهات أو الروايات ذات اللون السكني موجودة و لكننا نتكلم هنا عن أدب يصاغ ببصيرة واضحة و ليس بصورة عشوائية، لذلك حينما تدخل الإيماءات الجنسية بصورة متقنة بالعمل ستبلغ قصدها...

مما لا شك به أن ذروة الحريات الفنية و الدرامية و التي هي ناتج طبيعي للحركة الثقافية بالمجتمع السوي و الطبيعي موجودة بقوة كبيرة بالقاهرة، فعمر الحركة الدرامية و الفنية في مصر يزيد عن المائة عام، فللذي يتابع تاريخ مصر العتيق سيكتشف أن مصر تمتعت بحركة فنية خصبة جدا منذ أيام الفراعنة الذين حكموا مصر و مناطق واسعة من افريقيا و الشرق الأوسط لما يزيد عن ثلاثة آلآف عام، فازدهر في مصر فن الرسم بالألوان المشتقة من العناصر الطبيعية و النحت و تشكيل الفخار و غيرها، حتى فن هندسة العمارة كان قد ابتدأ بأخذ طابعه و مبادئه الأولية الخاصة حيث أن الأهرامات شاهدة على ما استطاع الفراعنة انجازه بالسابق، و كانت للموسيقى و الرقص و العزف على بعض من الآلآت الموسيقية مكانتهم بالحضارة الفرعونية و هذه كلها عوامل اجتماعية توارثها الأبناء عن الأباء و الأجداد ألى أن أخذت بالتطور جيل وراء جيل حيث أخذت بالنضوج أكثر عبر السنين المتعاقبة.
 
و لكن الفنون على أشكالها لم تصل الى ذروتها إلا عندما شهد التاريخ المعاصر لمصر حركة من الإنتدبات أثناء العصور الإمبريالية أبتدأت بالحكم العثماني لمنطقة الشرق الأوسط، فهذا الحكم الذي مكث في ديارنا لأربعمائة عام جلب معه حركته الثقافية الى ديارنا، و هذا انعكس على سبيل المثال لا الحصر على فن العمارة و التصميم بالعديد من البلدان كبلاد الشام و مصر و غيرها، و رأينا حملة قصيرة و لكن كبيرة و ناجحة على يد نابوليون بونابرت لضرب النفوذ العسكري البريطاني بالمنطقة، فبدلا من ضرب بريطانيا كما أرادت الرئاسة الفرنسية حينها قرر المضي قدما بحملة للإستيلاء على جزيرة مالطا ثم ضرب المماليك في مصر في عام 1798، فبعد هذه المعركة الناجحة فتحت مصر أبوابها للنفوذ الغربي من جديد مما انعكس بصورة ايجابية على الإقتصاد المصري و المجتمع عموما الذي كان يشهد ركود كبير، و استمر الحكم الفرنسي لثلاثة سنين حيث انتهى في عام 1801، فبرز على الساحة السياسية محمد علي باشا ليحكم مصر من جديد من خلال وِصَايَة تركية، و بعد حملة ناجحة لقتل نفوذ المماليك بالكامل من مصر ابتدأ برنامج ضخم للنهوض بالدولة المصرية و بشأنها الداخلي من جديد و فَنَشَطَتْ معه السياسة الخارجية المصرية حيث قاوم الولاية التركية على مصر، و لكن التدخل الأوروبي بالشأن المصري قلل من رصيد هذه النجاحات التي كانت تهدف لإستقلال مصر، و في عام 1841 اكتفى بمنصب باشا مصر التقليدي و اعترف بولاءه رغم ارادته للقسطنطية.
 
النفوذ البريطاني له قصته بالمنطقة فبعد محمد علي باشا صَعِدَ الى الحكم حفيده الخديوي اسماعيل حيث كان أول حاكم يحمل اسم خديوي في عام 1867، حاول الخديوي اسماعيل اكمال النهضة العمرانية و الإقتصادية التي أبتدأها جده بإصرارٍ و صدق...ولكن الحظ لم يكن الى جانبه إطلاقاً فحملاته العسكرية التي تزعمها لم تلاقي النجاح المطلوب و برامجه كلفت الخزينة المصرية ما لم تستطيع تحمله، كما أن كُلْفَتْ إنشاء قناة السويس كانت كبيرة جدا فأدى هذا الى افلاس كامل بخزينة الدولة المصرية، و قد نتج عن هذه التطورات تحالف مصالح قوي و ناجح بين فرنسا و بريطانيا للهيمنة الإقتصادية و السياسية على الدولة المصرية.
 
حفاظاً على السياق العام للمقالة لن أستفيض أكثر في السرد التاريخي عن الدولة المصرية...فحالات الهيمنة هذه لم تنتهي إلا بعد مواجهات و مظاهرات قوية أدت الى إضعاف النفوذ المشترك لتلك الدول على مصر، و لم تنجح كل المحاولات السياسية و الحربية بتحرير مصر من قبضة النفوذ الغربي عموما إلا مع انتفاضت الضباط الأحرار بعد الحرب العالمية الثانية و إنهاء عهد الحكم الملكي نهائيا و الذي كان حليفا استراتيجيا حينها لبريطانيا، و قد مررنا بهذا الملخص البسيط و السريع بحقبات الحكم الأجنبي على مصر حيث كانت بقاع واسعة من المنطقة العربية تخضع للسياسات الإمبريالية منذ أولى عهد الحكم العثماني اي في القرن السادس عشر...فمن الحكم العثماني الى الفرنسي بعهد القائد الكبير نابوليون بونابرت الى عهد محمد باشا و حفيده الخديوي اسماعيل الى الإنتدابات البريطانية و الفرنسية بالقرن العشرين على مناطق واسعة من الشرق الاوسط بما في ذلك مصر...فنحن نتكلم على اكثر من اربعة قرون من الثقافات الغريبة التي سكنت في عقر دارنا كعرب، فأتت هذه البلاد المُسْتَعْمِرَة بثقافة أمتها الى مصر و الى بلادنا العربية عموما.
 
مرادي من هذا السرد أن أنوه عن أن تفاعل مصر مع الأحداث التاريخية كلها كان له انعكاساته الإيجابية على الحركة الثقافية و الدرامية في تلك البلاد، فكانت شرارة إنطلاق السينما اساسا في منطقة الشرق الأوسط في جمهورية مصر العربية على يد الفرنسيين الأخوين لومير في الإسكندرية بعد عرضهم لفلم صامت في سنة 1896، و قد تبع هذا العرض عدة عروض ناجحة في عدة مناطق مصرية مما فتح الباب على مصرعيه لتجارب ناجحة جدا في هذا المجال، و آدت هذه التجارب الناجحة الى تصوير أول فلم صامت في شهر يونيو من عام 1907 ، و كان عن زيارة الخديوي عباس حلمي الثاني الى معهد المرسي ابو العباس في الإسكندرية...و أدى هذا بالتالي الى تصوير أول فلم روائي في عام 1917 للشركة الإيطالية المصرية، و قد صورت هذه الشركة فلمين صامتين بعد هذا التاريخ، و في عام 1932 تم عرض أول فلم ناطق بإسم "أولاد الذوات" ليتبلور بهذا الإنجاز مفهوم السيناريو و بالإنجليزية Scenario و ما يعرف بالإنجليزية ايضا بـ Script ، فأنطلقت في القاهرة شعلة لحركة درامية كبيرة لم تنطفئ الى يومنا هذه.
 
منذ عام 1917 الى يومنا هذا تم إنتاج الكثير من المواد الدرامية في مصر، و شاركت هذه البلاد منذ ذلك التاريخ الى يومنا هذا بعشرات المهرجانات الدرامية حول العالم حيث سافر الفلم المصري بنجاح ليشارك بهذه المسابقات العالمية، و شهدت هذه البلاد بقاعدتها الجماهيرية الكبيرة و طاقاتها الثقافية التي انصقلت بصورة كبيرة بسبب التبادل الثقافي التي نجم عن الأحداث التاريخية مهرجانات كثيرة من أبرزها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، و انبثقت قوانين الملكية الفكرية و القوانين التجارية اللازمة لدعم هذه الحركة الدرامية حيث رحبت البلدان العربية بالفلم المصري جدا و أصبح عرض الدراما المصرية أمر طبيعيا بحكم كم الإنتاج الضخم التي تشهده تلك البلاد.
 
في حقيقة الأمر ينتج عن هذه الحركة الدسمة تنوع بالمواد الدرامية التي يتم انتاجها، فرأينا في مصر الفلم التاريخي و فلم التراجدي و فلم الكوميدي و الإثارة و الأكشن و العاطفي و المسرحيات بشتى انواعها و غيرها من المواد الناجحة، و أصبح لتلك البلاد تجربتها الفريدة المميزة حيث عانقت بإنتاجها مرارا و تكرارا السينما الغربية، فلذلك تبلورت الحريات الكافِيَة في ثقافة المواطن المصري و العربي عموما لإستقبال هذه المواد من المنتج المصري...لذلك لا ينظر المواطن المصري الى هذه المواد ألا بِعَيْن التقدير لأنها نتيجة دهر بأكمله من الإنتاج الناجح، فحتى و إن غابت دروس الدراما عن الطالب في المدارس سيجد بين يده كم كبير من الدراما الناجحة التي يستطيع تذوقها و بناء خبرته الذاتية عليها، فلذلك نستطيع القول بأن كثرة التجارب الناجحة و التبادل الثقافي الذي تم من خلال أتون الدراما الكبير و المُنيرْ في مصر جعل الناس تستوعب بأن بالأعمال الدرامية عموما قد يكون هنالك المناظر الجنسية...قد يكون هنالك إيماءات جنسية...و هذا يعود لطبيعة الحبكة الموجودة بالعمل الدرامي.
 
لذلك فلم السفارة في العمارة و مشهد البطل و هو يرقص مع بنت الليل الذي جلبها بعد أن وَفًرَتْ له الجهات الأمنية المائدة الدسمة لا ينظر اليه المواطن المصري بأنه "تابو" “Taboo” أو شيئ محرم بالسينما أو بشع...بل هنالك متسع من الثقافة الفكرية و الخبرة المتراكمة عبر السنين و الافاق الدرامية الكبيرة لتقبل هذه المواد من السينما...

بالعودة الى المشاهد الطريفة لهذا الفلم نرى هنا تطور غير متوقع للأحداث المتعاقبة، فبوسط خلوة البطل مع خليلته يعصف بالبناية صاروخ مدمر يترك شقة شريف بدمار كامل...و هذا تطور مفاجئ جدا و غير طبيعي للأحدث...فيكون هذا الحدث تغير مفصلي بحيات شريف حيث يذهب الى أصدقائه الثلاثة و يروي لهم تفاصيل الذي حدث، و يدفع هذا الأمر صديقه المحامي ليشجعه برفع قضية على السفارة، فيأتي الى الشقة مع أصدقائه الثلاثة بصحبة كاميرا لتصوير الضرر الذي نجم عن الصاروخ ليعزز من موقف القضية، و لكن يجد الجَمْع أن الاضرار التي نجمت عن الصاروخ غير موجودة، فقد تم ترميم الشقة بالكامل، استوقفني هذا الحدث بالفلم و هذه المشاهد حيث إذا كان لي تعليق حول شدة غرابتها فسيكون بأنها نموذجية و قد دخلت ضمن النص بصورة عبقرية لتساعد هذا العمل بالإندراج بإمتياز تحت تصنيف الفارْس...فَمِنْ عمل شريف في دبي الى قدومه القاهرة و اكتشافه بأنه يسكن بجانب سفارة غريم كلاسكي و تقليدي للعرب الى المائدة التي اقتحم الأمن خلسة شقة شريف لترتيبها الى الصاروخ الذي دمر شقته و من ثم حادثة إصلاح الأضرار بفترة زمنية قصيرة...كلها تَمًتْ صياغتها بصورة رائعة لتخدم الإطار العام لكوميديا الفارْس.
 
يتعرف شريف على فتاة جميلة و جذابة جدا بالصدفة اسمها داليا، فأثناء تواجده بمقهى يرى مظاهرة شعبية تمر بالشارع بجانب المقهى، و تعجبه الفتاة التي تقود هذه المظاهرة، فبحركة كوميدية ينخرط بحشود الناس التي تصرخ بقوة ضد التطبيع مع الصهاينة و يحمل الفتاة على أكتافه و يبتعد عن أجواء المظاهرة بعيدا، فتكتشف معاكسته لها و ترفض ما يفعله معها شريف بقوة، و تعود داليا بسرعة الى المظاهرة لتبدأ مواجهة شرسة بين المتظاهرين و بين الأمن، اثناء الإشتباكات يحمل شريف داليا بعيدا الى المقهى مرة ثانية حيث يدور بينهم حوار يعكس مدى رفض داليا لتعامل الدولة المصرية مع الدولة الصهيونية، فبحقيقة الأمر تكون داليا محطة جديدة بحياة شريف حيث رَفْضَهَا لواقع تعامل الدولة المصرية مع العدو الصهيوني يتباين بقوة مع واقع شريف الذي يسكن بجانب السفارة، فهذه تركيبة غير متجانسة من الأحداث تندرج بقوة ضمن مناخ هذه الرواية التي تأبى ان تنتهي من دون ان تبهرنا بالأحداث الغريبة...فحتى عندما يذهب شريف الى زيارة عائلة داليا يتضح له كم انها غريبة الأطوار تتسم بروح التمسك بعقيدتها و عقيدة الحزب اليسار التقدمي التي تنتمي اليه...فحتى نرى هنا حادثة غريبة جدا حينما يقرر السفير الإسرائيلي زيارة جاره المصري شريف للإحتفال بعيد ميلاده كمباردة دبلوماسية لتحسين علاقة السفارة بجيرانها، فيجتمع بالصدفة بعائلة داليا التي تكره الصهاينة، و نراهم بحادثة ساخرة يقوموا بالغناء مع بعضهم اغاني عيد الميلاد لشريف...مزيج غريب من النقيضين معا بنفس الإحتفال الإجتماعي.
 
قرار شريف برفع قضية على السفارة يأخذ بعدا إعلاميا بسرعة نظراً لجرأة قضيته، فبين ليلةٍ و ضحاها يصبح شريف خيري مشهور بالصحف و رمز للصمود و الكفاح العربي الفلسطيني بوجه العدو الصهيوني...او ربما هو بصورة أدق رمز لرفض العرب الخنوع بوجه إسرائيل و بوجه النفوذ الصهيوني، فحتى عندما يزور شريف صديقه ولاء غانم في بيته و يلتقي بالسفير الإسرائيلي على مأدبة غذاء يكتشف نوايا ولاء الإستفادة من قدرات الهندسة الزراعية في الدولة الإسرائلية، فيرد عليهم بجملة تعكس مدى رفضه لواقع الفرض التي تقوم به اسرائيل على الدول العربية فيقول "سبع تالاف سنة بنزرع أرضنا و جيبنهم يزرعوا ارضنا؟"، فبداخل شريف رفض قاطع للتعامل مع أسرائيل بصورة مطلقة و اختبار محاولة التأقلم مع جاره الصهيوني قد فشل تماما.
 
عاصفة الشهرة هذه لم يكتب لها النجاح إطلاقا بحياة بطل هذه الرواية، فحدث الأسوء معه، فنرى اثناء مشاهد هذا الفلم قرار السفارة لوي ذراع شريف خيري ليتنازل عن قضيته الشهيرة، فتقرر رمي طُعْم له في طريقه، و في ليلة من الليالي يجد شريف و هو في طريقه الى شقته إمرأة جذابه قتروق لذوقه بالنساء بسرعة، فيحب شريف النساء التي تفوح منهم رائحة الأنوثة و النعومة...فيوقظ جمال هذه المرأة ميوله الرجولي، فيغويها الى فراشه بصورة ناجحة، و أثناء مغازلته لها بالفراش يتفاجئ بشخصيات تعلن عن نفسها أنها من السفارة الإسرائلية، فيتم تهديده بإذاعة شريط مغازلته للمرأة في الإعلام المصري ما لم يتنازل عن القضية، فقد صوروا عميلة مغازلته للمرأة بالكامل على شريط تسجيل.
 
يذهب شريف خيري مكرهاً الى المحكمة في موعد الجلسة و يعلن جهارا ارادته التنازل عن القضية، و عند هذه النقطة تتغير احواله الى الاسوء فبين ليلة و ضحاها تنعكس الآية و تتحول أصوات و هتافات الناس التي احاطته بالتبجيل الى جحيم يهاجمه في كل مكان، تنجح السفارة الإسرائيلية بالحصول على مرادها و يذهب تهديد شريف خيري عنها بعيدا...و لكن ينتهي هذا الفلم برسالة واضحة، بأن الكفاح مازال ممكناً، فبلحظة حينما يقرر شريف العودة الى دبي ليهرب من ضغط هجوم الناس عليه يشاهد مناظر مؤثرة لإستشهاد أطفال في جنازة في فلسطين الحبيبة على التلفاز، فيتفاجئ بصورة صديقه الطفل أياد في مقدمة كفن الجنازة، فتغلي في دمائه اللوعة عليه و يذهب ليلتحق بمظاهرة كبرى مع صديقته داليا و يجاهر برفضه لإسرائيل و ما تفعله بالشارع العربي و في فلسطين.
 
في النهاية لا يسعني إلا و أن أهنئ أسرة هذا الفلم بالكامل من جهاز الإنتاج و الفنانين على عمل مبدع ينتمي الى فئة الفارْس، فقد رسمتم البهجة و الإبتسامة على شفاهنا و نحن نشاهد هذا العمل الراقي، و لعله من اروع ما تم انتاجه من هذه الفئة الكوميدية راجيا أن تتحفنا السينما المصرية بالمزيد من هذه الأعمال، فدعم السينما المصرية هو من مسؤلية كل المنتيجين العرب و الطبقات المثقفة و الكُتًاب العرب و لعلني أكتب هذه المقالة الفنية من باب الإعجاب في هذا العمل الذي ما وجد قلمي الكثير من الضُعْف ليوجه له النقد...بل وجد رواية متقنة و جميلة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات