السخرية المرّة: "رعشة الليلك" في مواجهة اغتيال الوجود


يقول غوغول باستحالة النهوض معبراً عن يأسه الكامل من إمكانية التغيير
كان جاري الراحل فقيراً بامتياز، فتلظّى بأوجاع الفاقة ستة عقود، وكان مسكوناً برعشة فرح تصنعها لحظة امتثال الحظ بقوت العيال. أمضى العمر بمجالدة لبلوغ يقين مطلق في أن دروب الحياة ستضيء على الرغم من متاعب كان يشعر أنها لازمة أبدية.
بعد المغيب حين كنا نلتقي عادة كان يسألني عن سبب هزيمة خيوط النور أمام الظلام، وظل يردد سؤاله هذا بلا انتظار إجابة.
كان بعد أن يُسمعني إيجازاً عن عناء يومه يؤكد حلمه بعالم بلا أسعار ولا مرارات ولا دكاكين يحرص أصحابها على جذب كثير من الزبائن أمثاله ليوقعوا بهم في شراك ذلّة لا خلاص منها.
لكنّه كان منصفاً لدائنيه الذين يشعرونه بأن هناك متسعاً للفقير أن يعيش على أمل فرج قد يأتي لكنه في كل الأحوال لن يكون آخر الشهر.
وبوصفه رهينة للغرائبية واللامعقول، كان الراحل يدرك أن بهجة الفقير المتاحة تكون في السخرية من الفقر، إذ كان يردد أنه ما لم تكن لدى الفقراء القدرة على السخرية من فقرهم بنفس القدر الذي يشكون منه فإنهم مرهونون للاغتيال في رابعة النهار، على الرغم من أنهم يعتمدون قاعدة ذهبية في حياتهم تعتبر أن الفقير يجب أن يعرف أن يعيش من غير أمان بوصف ذلك هو أمانه الوحيد.
حدثني الراحل ذات جمعة فقال: اليوم على البسطة أمام المسجد الجديد في القرية عرض مجموعة من الباعة خضراوات وفواكه امتثالا لـ"اطلبوا الرزق عند تزاحم الاقدام". تهافتت الجموع علّها تفوز بأسعار "طايحة بعدما طارت وغارت".
أضاف: جلتُ على المعروضات، فكانت أسعاراً ليس في المتناول. كيلو البندورة بـ50 قرشا والبطاطا بـ80 قرشا والباذنجان بدينار، ولم التفت الى التين والبرتقال والتفاح التي لا أقترب منها، فوصلت إلى خاتمة جولتي خائباً في العثور على ما يقيم أود عائلة تهدُّ الحيل.
أردف في الحرص على التشويق في القص: تحسست جيوبي لأطمئن على وجود " المخمسة" الحمراء. وقفت أحسبها سريعا، فحدثتني النفس: منذ أسابيع لم يأكلوا الدجاج وما في الجيب لا يكفي لشراء مقتضيات" مقلوبة الجمعة". ترى ما الحل؟!
بالتفاتة إلى نهاية العرض اكتشفتُ بائعاً يعرض كمية من الفطر البرّي، عقدت العزم على شراء الفطر لأحسم ترددي.
اقتربت من الفتى البائع: كم كيلو الفطر يا عم: - بثلاثة دنانير الكيلو.
- كان رقما كصفعة ثانية كنت تلقيت سابقتها في "النتافة" التي أبلغني عاملها أن سعر "الكيلو" ديناران، فتساوى لدي أسى الدجاج والفطر، فرددت بتهكم: يا ناس خافوا الله أهو الرعد يشتغل على ديزل أسعاره في العلالي.
...في غمرة تآكل مداخيلهم وانحدار مستوى معيشتهم يلوذ الفقراء في بلادنا بالسخرية المُرّة من معاناتهم وآلامهم هربا من قسوة السائد، فوحشية الغلاء وجحيمه يتمظهران في سلوكهم وردات فعلهم التي تصبح خارجة عن سيطرتهم بصفتها انعكاسا لظروف أسهمت سلبيتهم في بلوغها.
مرد القلق والتوتر الذي يجتاح حياة الاردنيين هو شعورهم الجمعي بسادية الظرف وقتامته وإدراكا انه ليس في مقدورهم فعل شيء، فتعبيراتهم تكثف عجزهم المفضي إلى ذروة الهروب. هروب يجد تجلياته في استرجاع ذاكرة المعاناة التي عاشها آباؤهم في محاولة لإقناع الذات بأن المعاناة جزء متأصل من الوجود الجمعي للناس، وهم لا يستغربون مقولة كبار السن "المبلول لا يهتم برشق الميّة".
قال برنارد شو "في عالم قبيح شقي، لا يستطيع أغنى الأغنياء أن يشتري إلاّ القبح والشقاء". بكلماته تلك التي تضاهي مرارة العلقم لخّص الرجل أوضاع إنسان العدم.
أتذكر في آخر مرّة قبل غيابه الأبدي قال جاري كمن يُحلل بعمق أن في نكاته إمتاعا ومؤانسة غير ساذجة على مظاهر الأشياء.
وقال كمن يخلص إلى نتيجة أن الفقير سيبقى رهين محبسه ما بقي شارباً للسكوت.
جاري الراحل كان فقيراً دائب السخرية من فقر سحقه، لكنه عاش قلَقاً موشى بالفجيعة والتلاشي، وكان ظاهره وباطنه مريرين أنتجا بكائية دامية على مصير إنسان نهشته الحاجة، حتى أن مشيته كانت حزينة باستحياء مسكون بأوجاع دنيا نأى عنها الفرح.
في روايته "الأنفس الميتة" يدين الكاتب الروسي نيكولاي غوغول بسخرية قاسية فضيحة القوى التي تعتاش على إهانة الإنسان في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
يقوم "البطل السلبي" موضع الشجب مستفيدا من نظام القنانة السائد في روسيا آنذاك برهن "الأموات" من الفلاحين في دوائر الدولة، إذ كان يجري تثبيت عدد الفلاحين "النفوس المسجلة" بقوائم تقدم مرة كل بضعة أعوام، وفي الفترة بين تسجيلين يعتبر الفلاحون الموتى أحياء يُلزم مالكوهم بدفع الضرائب عنهم للسلطة، وعلى هذا الأساس بنيت حسابات بطل الرواية الذي يجوب أصقاع روسيا ليشتري النفوس التي غادرت الحياة، فيتخلى المُلاّك له بكل رحابة صدر عن الفلاحين الموتى بينما يقوم البطل برهن الأموات في مجلس الرعاية باعتبارهم أحياء فيحصل على المال الوفير ليراكم ثروته التي آلت إليه من سلالته النبيلة.
بعد معاناة نفسية قاسية يشرع غوغول بكتابة الجزء الثاني من الرواية إلا انه يمزق ما أنجز لقناعته أن التغيير يستدعي أن تأخذ بيد كل فرد لتهديه إلى الطريق وهو تصور مستحيل التحقق. باختصار يقول غوغول باستحالة النهوض معبراً عن يأسه الكامل في إمكانية التغيير، فيموت غوغول مغموماً معتزلاً قلقاً حائراً وحاسماً مصير إنسانه الذي لم يولد إلا للمعاناة.
ترى كم قائمة أعدت لبيع الأنفس الميتة العربية من تطوان إلى البصرة في سوق النخاسة؟!. ترى ماذا سيحدث لو عرف هؤلاء الواهنة الذين يساقون إلى حتفهم أن مؤسسة "قيد" العبيد هي أوطانهم وأن ديارهم تغص بالبائعين والمشترين من كل الألوان، وأن مأساتهم متوالية، لامس فكرتها الكواكبي والبستاني والعريسي ومحمد عبده وقائمة المنورين الطويلة في كتاباتهم، وصولاً إلى شهداء لبنان وفلسطين وثورات اليمن والجزائر وعمر المختار والأرادنة في هبة الكرك وصايل الشهوان وعلي الشرايري وقدر المجالي وسليمان بن طريف.
الأنفس الميتة، فكرة لم تكتمل بعد، فضاؤها الزمني ممتد عبر التاريخ. هي فكرة جهنمية أدانها الكاتب بشدة لكنها تمارس اليوم بإمعان، بينما تلهج ألسنة النفوس الميتة" بكيل الثناء وقرض القصيد ولها في مدح أبطال غوغول المحدثين.
suliman.alqbelat@alghad.jo



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات