أشعر بالحزن، واحس أكثر بالغربة، ولا أدري.. هل هذا هو شعور اليتم؟!

 لم اكن ادري ان ابي كان مرفئي وواحتي كما استشعر الآن، عرفته جيدا وأحببته كثيرا واحترمته أكثر، لكنني لم اكن اعلم انه كان السد المنيع الذي طالما حال دون
غرقي في دوامة الحياة.

رحل والدي، مضى الى ملكوت خالقه، كان في إيامه الاخيرة حبيبا قريبا الى قلبي وقد استحال الى طفل يسّره تحلقنا حوله وهو الاب والاهل والعشيرة، كانت عيناه تتفقدنا حينما نلتف حوله، يسأل عن الغائب، ويستفسر عن المتعب، ويدعو بأجمل قلب وأصدق سريرة لنا بكل ما نحب.

كانت دعواته لي البوصلة التي تحدد لي بدايات نهاري واعرف خلالها كيف اتحرك واتصرف، كان صدى صوته ملهمي ودليلي، لقد كان الاب الاخ الصديق الحبيب الذي طالما افتخرت به ولا زلت وهو ابو الرجال وعز الرجال.

لن أحدثكم عن ايام طفولتي وكيف كان أبي ذلك الاب الذي يحسدني عليه رفاق الصغر، ولكم ان تتخيلوا كيف هي طلته المحببة حينما كان يدخل الحي ويفاجأني ورفاقي الصغار بحلو الهدايا.

ابي الحنون الذي ما كان ليهنأ ان يأكل أو يشرب دون ان يطمئن على جميعنا اهل بيته وأقربائه، كان يجهد على ان يكون الاقرب والاحب لكل منا، كان ابي جميلا في فرحه حين كان يريد لكل الدنيا ان تفرح ان هو احس بالفرح، وكان جميلا في حزنه عندما يعقد حاجبيه وهو يقول هذا امر الله ولا رادٍ لأمره، كان ابي مؤمنا حقيقيا قريبا من الله ويحب من يقربه أكثر الى الله.

ابي الرجل الحر الكريم علمنا الكثير، غرس فينا عناوين قاسية صنعت منا رجالا نفخر بان نقول اننا خير خلف لخير سلف ان شاء الله، كان يعرف كيف هي مجالس الرجال ومواقفهم ولم يكن يتوانى عن توجيهنا بحكم الاب المعلم الذي يريد لإبنائه بأن يكونوا امتداده الذي يفخر به حتى بعد رحيله عن هذه الدنيا.

رحل والدي قبل أيام قليلة .. وكان أمر الله نافذا، نتأمل شكل هذه الحياة ودورانها، ويصبح أكيدا لنا اننا محض عابرون في رحلة الحياة.

تمر السنوات متوالية، يولد خلق جديد، ويمضي خلق آخر، هي الدنيا تمضي  والساعات تمر كما سحابة صيف عاجلة، ويرحل أحبة لنا ودون ان نشعر يغادروننا الى لقاء وجهه سبحانه وتعالى ، يمضون نعم  وليس هناك اسرع من لحظات الفراق، لكن يعزينا اننا بإذنه تعالى سنكون له من الابناء البررة الصالحين بعد ان انقطع عن عمله في الدنيا بدعائنا له وانّا لفراقه محزونين.

رحل والدي  الحبيب  تاركا وراءه  فراغا لا يسده احد غيره رحل واخذ معه كل ما هو جميل وبرحيلة كانت نهاية اخر المعزوفات التي كانت تؤنس قلبي الوحيد، رحل والدي الذي سيلقى امامة الاحبة الذين سبقوه، فمنذ ثلاثة اعوام رحل اخي الكبير زياد ، وبعده بعام رحلت ولدتي الحبيبة الحاجة "حكمت"، وها انا اودع اليوم  جبل العطاء رجل المهمات الصعبة  القائد الكريم الكبير استاذ المدرسين والتجار والعاملين، عميد عائلتنا الحاج جودت ابراهيم الشماس.
 
هذا الرجل الذي مر بكل مراحل العناء وبنى نفسه عصاميا حرا حين بداء حياتة عامل يتقاضى اجرا زهيدا ، الى ان انهى مهمته فرحل راضيا عما انجزه، عاش والدي يتيما، لكن ذلك زاده صلابة في الحياة فكبر الرجل بداخله قبل آوانه، وبعدها رحلت والدته بعد سنوات قليلة فصنعت منه الرجل الاهم والاقوى، المليء بصلابة الرجال ومشوحا رجولته تلك بنهر عطاء وحنان لم يتوقف طيلة حياته بل كان متجددا يغدق على الكل بما اعطاه ووهبه الله.

كان والدي لا ينفك يوصينا بضرورة الحرص على اداء حقوق الناس وتقوى الله وكان يقول لنا ان الله هو " الي شايفك دير بالك، ديرو بالكم  على خالتكم زوجة ابي  وعلى اخواتكم  وعلى عماتكم وخالتكم ، وكان دائما حريصا على  أن يحثنا على صلة الرحم وعلى أن نعيش إنسانيتنا كما يجب .

لا تكفي كل سطور الدنيا  وكتباتها  يا ولدي بالنسبة لي للحديث عنك، فقدناك واحتسبناك عند الخالق الذي لا تضيع ودائعنا عنده، افتقدنا بغيابك يا والدي مصدر إلهامنا وعزتنا وشجاعتنا وقوتنا، لأنك كنت المرشد والدليل، لانك كنت الاب الاحب والاخ الاعز والصديق الأوفى.
فقدنك يا اعز الناس ويا اروع من عرفنا، فقدناك وافتقدك كل الاحبة، لكننا لا نقول الا كما علمنا رسولنا الكريم انا لله وانا الية راجعون..  اللهم اجرنا في مصبتنا واخلفنا خيرا منها.

ونعاهدك يا والدي الحبيب ان نظل كما تريدنا يدا واحدة، نثقي الله ونخشاه ولا نخاف في الحق لومة لائم، نعاهدك على ان نصل الرحم  ونبر بإصحابك  ونكون كما امر الله ، ومن ثم كما تريد انت.

احبك يا أبي  .. والى رحمة الله .. والله اسئل ان يجمعنا بك في جنات النعيم.. اللهم آمين... آللهم آمين.