من يافا بدأ المشوار ..


عندما التقيته في بيروت بعد طول غياب قال مازحاً: أنت تلميذ عاق...

لذلك اسمحوا لي ان احدثكم عنه لاعطيه شيئاً من الوفاء الذي يستحق, لانه كاتب وصحافي وانسان ومناضل كبير...

في صباح يوم مبكر من أيام اوائل آب في العام 1962 كانت بيروت تستيقظ من نومها متأخرة تمارس كسلها بسبب الجو الحار الممزوج بالرطوبة.

في تلك الساعة الصباحية كنت ادق على باب مدير تحرير مجلة الحوادث في مبناها القائم في كورنيش المزرعة باحثاً عن عمل يساعدني على اكمال دراستي الجامعية, وقد اخترت العمل في الصحافة بسبب الميل والرغبة والانحياز لهذه المهنة.

فتحت الباب ودخلت الى المكتب فوجدت نفسي وجهاً لوجه أمام الاستاذ شفيق الحوت الذي استقبلني مرحباً بصوته الجهوري القوي. ووافق على منحي الفرصة التي انتظرتها. فمن »الحوادث« بدأ المشوار الطويل الذي بلغ 47 عاماً من دون ان أنسى شفيق الحوت ولا مجلة الحوادث ولا صاحبها سليم اللوزي الذي كان من أكبر واشطر وأخطر الصحافيين في لبنان والبلاد العربية.

منذ تلك اللحظة عرفت شفيق الحوت جيداً, لذلك لم اشعر بالدهشة عندما شعيته بيروت ملفوفاً بالعلمين الفلسطيني واللبناني, فهو الذي كان لبنانياً في يافاً وفلسطينيا في بيروت, فكان فلسطينيا لبنانياً عربياً لم يعش للحظة »ازمة هوية«...

ولد شفيق في حي المنشية من عائلة اصولها لبنانية وكان والده مختار حي المنشية, عاد شفيق الى بيروت بعد استشهاد شقيقه الأكبر جمال في قتال ضد العصابات الصهيونية عام 1948 فأكمل دراسته في الجامعة الامريكية ثم اشتغل بالتدريس ومارس السياسة حزبياً من اوسع ابوابها ثم انتقل الى الصحافة.

وعندما بدأ احمد الشقيري مشاوراته واتصالاته لانشاء منظمة التحرير نشر شفيق الحوت بياناً في »الحوادث« باسم جبهة التحرير الفلسطينية, فاتصل به الشقيري من فندق »السان جورج« في بيروت وعاتبه على ما ورد في البيان ودعاه الى حضور المؤتمر الفلسطيني الاول الذي عقد في القدس في 28 آيار ,1964 وقد قبل شفيق الحوت الدعوة بعد تردد طويل, وبعدها تم اختياره أول ممثل لمنظمة التحرير في بيروت.

كانت علاقته بأحمد الشقيري بين مد وجزر على الدوام, كذلك كانت علاقته في ما بعد مع »ابو عمار« متوترة في معظمها, فالذي اعرفه ان الحوت كان مناضلاً صلباً عنيداً, وفي كثير من المراحل كان يستقيل من العمل ويتخلص من روتينه اليومي ويعود الى بيت الصحافة والكتابة, فكتب في جريدة المحرر مقالات ساخنة ومهمة كما صدرت له عدة مؤلفات من بينها مؤلف يروي فيه سيرة حياته بكل محطاتها بعنوان »من يافا بدأ المشوار« وفيه يكشف عاشق البحر عن الكثير من جوانب وتفاصيل حياته وشخصيته ومعاناته وعشقه ليافا وبيروت.

كان »أبو الهادر« يعيش حياة اسرية هادئة ومستقرة فزوجته بيان هي ابنة المؤرخ عجاج نويهض وقد عاشت ذات التجربة وما جمعها بشفيق الحوت ليس الحب والوفاق فحسب فهي لبنانية - فلسطينية - اردنية عربية, ورغم ذلك ليست عندها أزمة هوية, فوالدها عجاج نويهض لبناني عاش في فلسطين منذ بداية عشرينات القرن الماضي وانتمى الى القدس وبعد نكبة 1948 لعب دوراً مهماً في مؤتمري اريحا وعمان لتحقيق وحدة الضفتين, وعاش عجاج نويهض في عمان وعمل مديراً للمطبوعات, وابنته الثانية هي زوجة صديقنا المرحوم زهير العجلوني. وفي العام 1959 عاد الى بيروت حتى توفي في العام 1982 . قدره ان يرحل خلال الغزو الاسرائيلي لبيروت.

أما شفيق الحوت, لم يفقد الامل بالعودة الى يافا الى حارة عائلة »البيروتي« في حي المنشية, لذلك ظل مؤمناً بقضيته, وفياً لها وليافا, وعندما سأله الشيخ بيار الجميل رئيس حزب الكتائب عندما توترت العلاقات بين الكتائب والمنظمة في أوائل السبعينيات قائلاً: يا شفيق انت من عائلة بيروتية كريمة, لماذا لا تترك الفلسطينيين وتعود الى عائلتك?!.

رد عليه »ابو هادر« فقال: لأنني من عائلة كريمة سأظل وفياً ولن القي حجراً في البئر الذي شربت منه..

وعندما اعلن اتفاق اوسلو وقف شفيق الحوت ضده وكتب مهاجماً متهماً. وقد قرأت ان »ابو عمار« رد على شفيق واصفاً اتفاق اوسلو بانه »ورد احمر الخدين« فرد شفيق على »ابو عمار« قائلاً: »اتفاق اوسلو قرد احمر الردفين«!!

الكتابة عن سيرة وحياة وتجربة المرحوم شفيق الحوت تطول, وتحتاج الى مجلدات, فهو الذي حافظ على موقفه النضالي واذكر انه تألم كثيراً بسبب الصراع بين حماس وفتح, وانقسام الساحة الفلسطينية,وهو الذي رفع صوته المتعب مقترحاً اعادة هيكلة منظمة التحرير كي تتسع لجميع الفصائل بما فيها حماس من أجل حل الخلافات داخل اطار المنظمة, ولكن المتصارعين لم يأخذوا بالاقتراح وظل الصراع على السلطة, وتم الانفصال الحقيقي بين حماس وفتح وبين الضفة وغزة.. رحم الله »ابو الهادر« حيث يرقد الآن في مقبرة الشهداء في بيروت... وفي نفسه شيء من يافا.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات