المواقف حسب الكرسي (1)


قبل ايام حضرت حفل اشهار كتاب السياسية الاردنية الخارجية وتطورها، لمؤلفه السفير فؤاد البطاينة، والذي وجهت له السؤال، عن اسباب غياب هذا الانتقاد ابان استلامه وتنقله بين كراسي المسؤولية، فما كان من الرجل الا ان اجابني بعيدا عن جمهور المستمعين وبشكل شخصي، ما ادراك انت بما قمت به اثناء وظيفتي.

هنا اصمت، أليست هذه الإجابة جاهزة بمثابة شماعة يعلقون عليها تقصيرهم، كل من ينتقد الدولة، بعدما يتم احالته على التقاعد، بات معارضاً، ومطلوب من الموانين تصديقة، انا شخصياً مؤمن أشد الايمان بجدوى الانتقاد إذ كان صادراً من موقع المسؤولية، لا من خارجها.

وعليه، أن يكون لك مبدأ في الحياة، فهذا يعني أن تبقى مشتغلاً ومتمسكاً فيما تطرح، لكن أن تتخلى عن مبادئك وقتما تتعارض مع مصالحك، فهذا كمن يتخلى عن دينه، أليس الدين مبدأ يتوجب التمسك به، لا التخلي عنه.

عندما تستمع إلى احاديث رجالات الدولة الذين نقلبوا بين ليلة وضحاها إلى معارضين للنظام، بعدما خلعوا اثوابهم، تشعر وكأنك في مدينة افلاطون الفاضلة. هذا الخلع للاسف لم يكن فكرياً، بل جاء نتيجة تقدمهم بالعمر، إذ أننا لم نسمع من ذي قبل ان أحد المسؤولين انتقد الدولة الأردنية وهو على رأس عمله.

لكن، عندما تدقق في تأريخهم، تصاب بالدهشة، تتكاثر الأسئلة، أحقاً كان هؤلاء في يوم من الأيام يتبؤون مناصباً في الدولة، ومحسوبين عليها؟ أحقا يطالب هؤلاء بالإصلاح ومحاربة الفساد، وهم عينهم التي استبيحت الدولة في ازمانهم، اثناء اشتغلالهم لمواقع المسؤولية ؟

خذ مثلاً، بيع شركة الفوسفات لصالح الصندوق الاستثماري لسلطنة بروناي – شركة كامل هولدنجز ليمتد - وترجمة الاتفاقية التي قام وأطلع عليها أحد السفراء المملكة، الاتفاقية تضمنت الكثير من سلبيات وفضائح كارثية، لكنه أثر الصمت، وأخفى معرفته بالصفقة، كما بالترجمة التي كانت كارثية، طوال سنوات لم نسمع له صوتاً، وكأنما الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد !

ومع ذلك، تجده فخوراً بإنجازاته، ولا يخجل منها، فضميره الميت لا يأنبه، ولا نظرة الناس اليه تحزنه، ولأجل هذا، يطوف محافظات المملكة، منظراً، ومنتقداً اساليب إدارة الدولة، مع أنه أحد اركانها، واحد من أطلع على أهم ملفاتها !

فهل ثمة مانع حال سابقاً دون كشفهم للحقائق تلك، بأن يخرج علينا هولاء بعدما زالوا من كراسيهم ومواقعهم، وزال المانع كذلك، للمطالبة بالاصلاح، واعادة هيكلة الدولة، مع أنهم سبب في اوجاعها ؟

يا لوقاحتهم !

هؤلاء في مقالاتهم ولقاءتهم ومحاضراتهم، على الأغلب، يمتهون فنون “ التقية ” فهم يقولون في العلن، ما يضمرونه في السر، يبدعون في فعل التنظير، لكنهم يتوقون إلى فعل الاستفادة المتأتية من النظام، إذ يعتبر هؤلاء أنفسهم، جنود احتياط، يلبون الدعوة في حال طلب منهم ذلك ! حتى وإن كان النظام رافضاً للتطور، والاصلاح.

أن تكون معارضا فهذا يعني أن تهتم لإحتياجات الناس قبل أي شي، أن ترفض المساومة على المبادئ، أن لا تقبل بيع منجزات وموارد وثروات البلد، أن لا تشارك في تأكيد بعض القوانين، أن لا تشهر فعل الاقصاء بوجه من يخالفك الرأي، لانه لا يتخذ من سياسة "التقية" طريقاً له.

ان تكون ليبرالياً فهذا يعني أنك لا تتعارض أي شي له علاقة بسعادة الإنسان، ولا تشيطن الأخرين لمجرد الاختلاف، هدفك البناء لا الهدم، واساليبك الحوار لا الاقصاء، ان تؤمن بالقول، وبالفعل أكثر. أن ترفع من شأن الإنسان وقيمته، ودوره في مجتمعه، لكن، لا تسقطه في أتون مستنقعات المصالح الفردية و ” الشللية “، ودهاليز الاجهزة الموبؤة وصراعاتها.

البعض شغل مناصب كبيرة في فترة ما، وما أن ، غابت شمسه، حتى حمل سيف الانتقاد منظراً ضد الدولة، لا يشق له غبار، متناسياً أن ما يطالب به اليوم من اصلاح وديمقراطية ومحاربة الفساد، واستعادة مقدرات الدولة، ومؤسساتها، كان أحد ادواتها ومنتجاتها سابقاً.

لا، بل هناك من تستمع له وهو جالس على كرسي المسؤولية، واذ به يرفع من شان الدولة ومؤسساتها وافعالها ومشاريعها، وما أن تجالسه بشكل فردي، حتى ينقلب رأساً على عقب، صاباً لجام غضبة على الدولة والنظام، متهماً أياهما بالفساد ومساندة سدنته وحمايتهم، لكنه قبل أن ينهي حديثه، يقول لك: لا ذنب لي، فما أنا إلا عبد مأمور، أنفذ ما يطلب مني.

الميزة الأكبر في شخصيات هؤلاء، أنهم يبحثون عن مكان تحت شمس لهم أن كانوا خارج الدائرة، أو عن مكان أكثر فائدة، أن كانوا داخلها، كلا الطرفين غير متفقين فيما بينهم، فلا قواسم مشتركة تربطهم، فهم بالأصل كارهين لذواتهم، قبل كرههم للأخرين، وغير متفقين على ما يجب، وما لا يجب أن يكون، وهذا ما يدعوا المواطن الى طرح السؤال التالي: ان كنتم بهذه الصفات، فآن لكم إذن مطالبتنا بالاستماع اليكم، وأقوالهم، هل القيادات الشعبية تصنع بهذه الصورة ؟

كيف لنا أن نؤمن بهم وبما يطرحون، بل ما هي عناصر الخلاف ما بينهم وبين غيرهم، إن كانوا ليبراليين أو محافظين ومعارضين وحتى مسؤولين، يمثل لهم النظام مكان للتجميع بين كافة المتناقضات، كما يمثل لهم مكاناً للتكسب، يمكن استغلاله بمنتهى السهولة بما يخدم مصالحهم وقت الحاجة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات