صِيانةُ العقل .. باتّقاء خيانة النّقل


وخيانة النقل إنما تكون بردّ ما جاء به النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - :

إمّا بنوعٍ من الاستهزاء - كما يصدر من الزنادقة والملاحدة الذين باتوا يملئون وسائل الإعلام المختلفة ! - وإمّا بالتأويلات الفاسدة للنصوص الثّابتة عنه – صلى الله عليه وسلم – لا سيما في باب العقيدة ، أو الابتداع في العبادات كما هو الحال عند كثير من الفرق التي وصلنا خبرُها .. ، ونرى كثيراً منها في زماننا هذا .
أو تكون الخيانة استخفافاً بكلام العلماء من أهل الحديث والأثر والفقه والنظر !

فإذا اطمأنّ المرءُ – في المسائل الشرعيّة - لعقله القاصر أو زَهِدَ بالنقل اجتمعت عليه من أصناف الفِكَرِ والخواطر ما يبلغ به إلى الحيرة والتردّد .. ، ويستقرّ به في مراتب العُجْب والتزام توافه الأحكام وصغائرها ؛ لأنّ الله – جلّ ذكرُه – قد أنزل هذا الدين بلاغاً إلى رسوله الكريم ، وأوحى إليه نصوصاً يحكم بها ويدعو الناس إلى اتّباعها ، وأمَرَه بذكر المسائل الشرعيّة وإقامة البراهين عليها ؛ فقال الله – تعالى - : { وإن تُكّذِّبوا فقد كذَّبَ أممٌ من قبلِكم وما على الرسول إلا البلاغُ المبين }

ثمّ جعَلَ اللهُ للرسول – عليه السلام – مَن يحملون رسالته ويبلّغون أمانته ؛ فكانوا خيرَ مَن عظّم النصوص التي حفظوها عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وأنزلوها مكانها المقصود شرعاً بما أدركوه من ظروف التنزيل وفَهْم أسبابه ؛ فلا تقبل الفطرة السليمة أنْ يُقدَّم على فهمهم للنصوص الشرعيّة أيَّ فَهمٍ أو عقلٍ مهما بلغ من قوة البيان وفصاحة اللفظ .

مثلُ هذا الكلام يُقال لصنفين من الناس :
الأول : الفرق والأحزاب الإسلاميّة التي جعَلت مِن رموزها ومفكريها مَرجعاً رئيساً في منهجها وفكرها وعملها ، ويحفظ المنتسبون إليها من الحكايات والعبارات عنهم أكثر مما يحفظون من النصوص الشرعيّة وأقوال أهل العلم عليها ؛ بل يرون فيها كلّ الصواب وإنْ عورضت بما قامت عليه الحجج والبراهين ؛ ولعل حال جماعة الإخوان المسلمين مع أمثال سيد قطب وحسن البنا مثالاً بيّناً على هذا .. ! .

الثاني : أولئك الذين يلتفون على النصوص الشرعيّة – وحتى إجماع أهل العلم – بأساليب خفيّة وماكرة كالمطالبة بربط النص بالمصالح ، ثمّ استبدال المصالح الشرعيّة المعتبرة بأخرى مناقضة لها أو خارجة عنها بحكم ما يحتفّ بها قرائن وأوصاف ؛ وهذا منطبِقٌ – تماماً – على أهلِ ما يسمّى بـ ( الإسلام السياسي ) ؛ فإنهم – ابتداءً – دَعوْا إلى ضرورة اشتغال الجماعات الإسلاميّة بالعمل السياسيّ ، واحتجوا بأنّ فيها مصلحة شرعيّة تتمثلُ بعدم ترْك أمور الناس لـ ( غير الإسلاميين ) ، ثم ما لبثوا قليلاً حتى أنْستهم السياسة العصريّة أصولَهم الشرعيّة الصحيحة، فاستبدلوها بمبادئ ومصطلحات السياسة المعاصرة بما فيها من المنكرات والمخالفات الصريحة ! .

وثمةّ أسلوبٍ آخر يتمثلّ بكثرة التركيز على تحقيق مناط الأحكام الصادرة عن أهل العلم المتقدّمين من حيث الزمان والمكان ؛ ثمّ يغضّون الطرف عمّا يتوافر في المسألة من نصوصٍ شرعيّة واضحة لا لبس حولها ، وقاطعة لا اجتهاد فيها .. ، وما كلام العلماء على تلك النصوص إلّا من باب التوضيح والتفهيم.

الناظر بعين التحقيق يرى جيّداً ما يُحدثه أولئك في حياة المسلمين ، وما يجرّونه للأمة من تفرّق واختلاف ، ويلبّسون على الناس أمرَ دينهم إلى درجة يبدو فيها الباطلُ حقّاً لكثرة ما يرتبط به مِن وسائل التدليس واستغلال العاطفة السائدة بين العوام ، في وقتٍ يُظهرون فيه دعوة المُعظِّمين لمنهج وفهم السّلف تشدّداً أو تخاذلاً أو رجّعيةً أو جَهْلاً بالواقع !! .

مِن أوجب الواجبات على الناس في هذا الزمان صيانةُ عقولِهم عن الأوهام وسيئ الأحكام ؛ وهذا لن يُتاح لهم إلّا بامتثالهم لله – تعالى – واستسلامهم على بصيرةٍ وهدى ، وطريق هذا هم أهل العلم – ورثة الأنبياء – لا سواهم ؛ سياسيين كانوا أو مُفكرين! أو تنويريين ! .

قال الإمام القرطبي – رحمه الله - : " فرضُ العاميّ ـ الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمرِ دينه ويحتاج إليه ـ أنْ يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه، لقوله – تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون } "
فأين عامّة الناس – اليوم – من هذا ؟

ومع انتشار الاتجاهات الفكريّة المنحرفة ، وظهور المذاهب العقليّة الفاسدة المُزخْرفة ، ووسائلها الإعلاميّة المُحترفة ؛ حتى صارت أهمّ مُغذّيات النفوس والعقول ؛ فعلى المسلم التنبه لها – ولو اقتضى هجْرها - ، والعناية بما ينفعه في دينه ودنياه ؛ والانشغال بالعلم الشّرعي عمّا سواه ؛ فهذا سبيل النجاة ومدارج السالكين إلى ربّهم – جلّ في علاه - ؛ أخرج الدارميّ عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ عُمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أَتَى رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بنُسْخَةٍ مِن التَّورَاة ، فَقَال: يا رسولَ اللَّه هذه نُسْخَةٌ مِنَ التَّوراةِ، فسَكَتَ فجَعَلَ يقْرأُ ووجهُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَغَيَّرُ، فقال أَبو بكْرٍ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، أَمَا تَرى ما بِوَجه رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟

فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فقال : أَعوذُ بِاللَّه مِنْ غضَبِ اللَّهِ ومِنْ غضَبِ رسُولِهِ ، رضينا بِاللَّهِ رَبًّا وبِالإِسلاَمِ ديناً وبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، فقَالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم :

" وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي لاَتَّبَعَنِي " .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات