كباش روسي أمريكي حاد بفعل الحويصلتين السوريّة والأوكرانيّة


العلاقات الدولية غير مستقرة لأسباب عديدة ومتعددة، ولكن جلّ تلك الأسباب والمسببات جاءت بفعل وتفاعلات ومفاعيل الحدث السوري وعقابيله، ان لجهة الدولي والأقليمي، وان لجهة المحلي وبيئته في جغرافيا سورية الطبيعية، فمن خديعة ما يسمى بالمجتمع الدولي( أمريكا وحلفائها من الغرب وبعض عرب)لروسيّا في الحدث الليبي، الى الخديعة الأوكرانية وعقابيلها، قاد ويقود ذلك الى تصلبات في الموقف الروسي العميق والثابت من المسألة السورية، وما يحاك حالياً لفنزويلا على طريق ميكانيزميات الحدث الأوكراني.

فروسيّا تدرك أنّ رؤية الطرف الثالث فيما يجري في سورية، هي ذات الرؤية لذات الطرف في الحدث الأوكراني الآن، في جعل الجغرافيا الأوكرانية(كحويصلة) تتجمّع فيها كل أمراض العالم، تماماً كما فعل ويفعل الغرب بالتعاون مع واشنطن وبعض عرب غادر، في جعل الجغرافيا السورية(كحويصلة)تضم كل أمراض العالم الأرهابية، باختصار انّهم يريدون للتاريخ أن يتقيأ نفسه في أوكرانيا أيضاً، فهل ستسمح موسكو لهم ولتاريخها وهي الأقرب الى الشرق منه الى الغرب أن يتقيأ نفسه على أبوابها؟!.

الأزمة الأوكرانية ترى فيها أطراف أنّها مرحلة جديدة متسارعة من مراحل حرب أعمق من الباردة، بعثت من جديد على طول خطوط الكباش الشامل للعلاقات الروسية الأمريكية، والمسألة في كييف هي نتاج طبيعي لتفاعلات ومفاعيل العامل الروسي في الأزمة السورية، لجهة عرقلة مشاريع الطرف الثالث في المسألة السورية، والسعي نحو عالم متعدد الأقطاب تنسجه موسكو بالتعاون مع أعضاء موضوعيين في الأسرة الدولية كحلفاء موثوقين للفدرالية الروسية، لذلك تم الدفع أمريكيّاً وغربيّاً ونيتويّاً بتحريك الشارع الأوكراني، وتعبئة النزعة القومية لدى اليمين المتطرف فيه، وافتعال ما جرى لعرقلة اجراءات السير نحو عالم متعدد الأقطاب، تتوزع فيه المسؤوليات الأممية، ويتحمل فيه الجميع من أعضاء الأسرة الدولية واجباته، باعتباره جزء من التغيرات الجيواستراتيجية في المعمورة، وتنظر واشنطن ومن معها الى منطقة أوروبا الشرقية، كمجال حيوي هام بالنسبة لموسكو أرادت الأشتباك فيه، عبر التوسعة في القدرات العسكرية فيها، وفي مفاصل جغرافيتها وثناياها الديمغرافية لمواجهة الدولة الروسية ونواتها الصلبة، للحد من تعاظم نموها الطبيعي ان لجهة الأفقي وان لجهة الرأسي.

فشرق أوكرانيا( روسيّا القديمة) وجزيرة شبه القرم والتي تتمتع بالحكم الذاتي، يشكلان المنفذ الأستراتيجي الى المتوسط عبر البحر الأسود وصولاً الى القاعدة العسكرية في طرطوس السورية. وروسيّا تدرك نوايا الغرب في ضم أوكرانيا الى الناتو، حيث يعني ذلك أنّ البحر الأسود صار بحيرة نيتويّة بامتياز، كما أنّ نواة حكم الدولة في روسيّا تدرك أنّ الطرف الثالث الغربي في الحدث الأوكراني، يسعى لنصب فخ التورط العسكري لموسكو في أوكرانيا ليصار الى اضعاف واستنزاف القوّة الروسية واشغالها لتنكفأ الى الداخل الروسي الفدرالي، وجعلها في موقع الدفاع لا الهجوم ولمنعها من التمدد العسكري والأقتصادي وتوسعة المجال الجيوبولتيكي الأستراتيجي لمجتمع المخابرات الروسية في العالم، لتدعيم مفهوم العالم المتعدد الأقطاب عبر التعاون مع دول البريكس ومجتمعات استخباراتها ومخابراتها.

الحدث الأوكراني يهدد الأمن في جلّ القارة الأوروبية، وقد تنزلق الأمور الى ما لا يحمد عقباه، عبر التدرج بتدحرج الى أحداث عسكرية مباشرة بين الغرب والروسي، حيث المعركة معركة السيطرة على ممرات الغاز والنفط في العالم، فكيف يصار الى الأرتهان لجزء من المعارضة الأوكرانية لدفعها للسيطرة على السلطة المنتخبة بالبلطجة بمساعدة من الغرب هذا؟!.

روسيّا كشفت عن قرار استراتيجي متخذ من مدة وبدء العمل به من مدة ليست بالقصيرة، في بناء المزيد من قواعد عسكرية روسية في كل من كوبا وفنزويلا وفيتنام ونيكاراغوا( الحدائق الخلفية لواشنطن في أمريكا اللاتينية)، كاستراتيجية تطبق على استراتيجية واشنطن العابثة في الحدائق الخلفية للفدرالية الروسية، والأخيرة بعاصمتها موسكو تشكل قلب أوراسيا، وقيل قديماً أنّ من يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم.

في أوكرانيا هناك يمين متطرف، ويمين اليمين وهو أشد تطرفاً من اليمين المتطرف، وذو عناصر راديكالية مسلّحة ذات ميول نازيّة فاشيّة، فتمّ تعبئته أمريكيّاً وغربيّاً من جديد وشحنه، لتعم الفوضى في الداخل الأوكراني وبالتالي على الحدود مع روسيّا، مع العلم والمعرفة أنّ فكرة موالاة أوكرانيا للغرب وواشنطن هي فكرة ضد الجغرافيا والتاريخ، حيث أمام الأزمة في أوكرانيا خيارين فقط: الأرتهان الى التسوية السياسية وعلى قاعدة لا غالب ولا مغلوب، أو الحرب الأهلية والتي قد تقود الى شراسات غير معهودة في رد الفعل الروسي المشترك مع الصين تحديداً، ازاء الغرب وأمريكا وفي أكثر من مكان في العالم وصولاً الى حزب الله في لبنان، حيث تقول المعلومات أنّ صواريخ ياخنوت الروسية – كروز الروسية ذات المدى 300 كم وغيرها، قد وصلت حزب الله اللبناني وبكميات غير قليلة.

تتحدث المعطيات والوقائع الجارية على طول خطوط العلاقات الروسية الأمريكية الغربية، على حالات من الكباش السياسي والعسكري والأقتصادي والدبلوماسي والأمني الأستراتيجي، وتضارب المصالح والصراعات على أوروبا والحدائق الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية، ومثيلتها الحدائق الخلفية للفدرالية الروسية وعلى قلب الشرق سورية، وعقابيل وارهاصات ما يجري في أوكرانيا الآن. اذاً تدهورت العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين، استناداً إلى تدفقات الأخبار والمعلومات التي تكشف كل يوم الدور المتعاظم والمتزايد الذي تقوم به موسكو في مواجهة تحديات النفوذ والهيمنة الأمريكية.

فكلا العاصمتين الأمريكية والروسية وحلفائهما تتبنيان مواقفاً متعارضة إزاء كافة الملفات الدولية والإقليمية الساخنة وغير الساخنة، وبالذات تلك المتعلقة بالشرق الأوسط وشبه القارة الهنديّة، والتوجهات الأمريكية الهادفة إلى عسكرة العالم، إضافة إلى بعض بنود التجارة العالمية، وقضايا حماية البيئة وحقوق الإنسان.

أعمق من الحرب الباردة والتي تبعث من جديد، بسبب ظهور الفدرالية الروسيّة وكومنولث الدول المستقلة، وظهور منظمة شنغهاي للتعاون التي جمعت بين الصين وروسيّا على طاولة موحدة الأجندة، حيث الأدراك الأمريكي لروسيّا الفدرالية باعتبارها مصدراً للتهديد والخطر، فخبرة العداء لأمريكا متجددة في الشارع الروسي، وتجد محفزاتها في الإرث السابق الذي خلفته الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي، وتدرك العاصمة الأمريكية واشنطن أنّ التماسك القومي الروسي أكثر خطراً من التكوين الاجتماعي السابق الذي كان في الاتحاد السوفييتي، خاصة في الاعتبارات المتعلقة بالعداء القومي الاجتماعي التاريخي بين القومية الروسية والغرب، وتتميز الدولة الروسية بالاكتفاء الذاتي وبوجود الوفرة الفائضة في كافة أنواع الموارد الطبيعية، وبالتالي يصعب التأثير عليها عن طريق العقوبات أو الحصار أو الحرب الاقتصادية والتجارية الباردة، وهو موقف يجعل روسيّا أفضل من الولايات المتحدة الأمريكية التي تستورد كل احتياجاتها من الخارج الأمريكي، وانّ روسيّا قادرة على التغلغل في أوروبا الغربية عن طريق الوسائل الاقتصادية، وهو أمر سوف يترتب عليه احتمالات أن تخسر أمريكا حلفاءها الأوروبيين وغيرهم الذين ظلت تستند عليهم وما زالت، وان المسافة بين الفدرالية الروسيّة والولايات المتحدة الأمريكية، هي بضعة كيلومترات عبر المضيق البحري الفاصل بين ولاية الاسكا وشرق روسيّا، اضف الى ذلك الى تملك روسيّا كمّاً هائلاً من أسلحة الدمار الشامل، والمعلومات الأمريكية الاستخبارية حول موسكو غير دقيقة بسبب قدرة الروس على التكتم والسريّة.

فمقابل سلّة الأدراك الأمريكية هذه ازاء موسكو، هناك سلّة الإدراك الروسية لجهة العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي، حيث لم يتغير الإدراك الروسي لأمريكا عن ذلك الذي كان سائداً في أيام الاتحاد السوفييتي، وينظر الروس لأمريكا حالياً على أساس سعي حثيث لأمريكا إلى فرض الهيمنة على العالم ولإضعاف روسيّا عسكرياً واقتصادياً تمهيداً لإضعافها سياسياً ودولياً، كما يريد الأمريكيون تحويل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد تابع للغرب، ويسعى الأمريكيون إلى السيطرة على المناطق المجاورة لروسيّا تمهيداً لمحاصرة روسيّا بسلسلة من القواعد.

وكما تحدث كاتب هذه السطور في تحليل سابق بعنوان: واشنطن ودعم الحركات الأنفصالية عبر الجهاد الأممي ودموية وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، فانّ الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى الإضرار باستقرار روسيّا عن طريق تشجيع الحركات والتيارات الانفصالية الناشطة في بعض مناطق الاتحاد الروسي، عن طريق تشجيع الأقليات على التمرد والعصيان مثل الشركس في جمهوريتي ابخازيا وشركسيا، وأيضاً لتشجيع قوميات الأنغوش في أنغوشيا، إضافة إلى تمردات داغستان، والشيشان، وأوسيتيا العليا والسفلى، كما أنّ التحركات العسكرية الأمريكية الدولية والإقليمية تهدف إلى الاقتراب بأكثر ما يمكن باتجاه حدود روسيّا، وكان آخرها ما يجري في أوكرانيا الآن، ومحاولات مستمرة لأمريكا نشر الشبكات والمنصات الصاروخية والرادارات العملاقة على مقربة من حدود روسيّا مع دول شرق أوروبا السابقة، وأيضاً إلى نشر القواعد الأمريكية في دول آسيا الوسطى.

واشنطن تسعى إلى قطع الطريق أمام تعاون موسكو مع بقية دول العالم، وقد بذلت وتبذل جهوداً كبيرة في عرقلة مشروع تمديد أنابيب النفط والغاز من الحقول الروسيّة إلى مناطق الاستهلاك في غرب أوروبا، وعلى وجه الخصوص فرنسا وألمانيا، ومع عمل مستمر لاستقطاب دول الكتلة الشرقية السابقة مثل بولندا، بلغاريا، المجر، تشيكوسلوفاكيا، وتحويلها إلى قواعد عسكرية متقدمة للقوات الأمريكية في مواجهة الدولة الروسية.

يشكل الملف النفطي أبرز النقاط التي تتضارب وتتنافر فيها المصالح الروسية مع المصالح الأمريكية، ويعتبر المخزون الروسي من النفط والغاز هو الأكبر في العالم حالياً، كذلك ماتزال روسيّا المصدّر الأول للنفط والغاز في العالم، ومن ثم فإنّ محاولات أمريكا الضغط على الدول المصدرة للنفط لكي تقوم بتخفيض الأسعار عن طريق رفع معدلات الإنتاج، هي محاولات تصطدم دائماً بالحاجز الحديدي الروسي.

كذلك تفرعت عن الملف النفطي جملة من الملفات الأخرى، بعد انطلاق ما سمّي أمريكيّاً بالربيع العربي، فمن تونس الى مصر مرسي فمصر السيسي، فليبيا وحالات الفوضى فيها واستهداف سورية حتّى اللحظة قلب الشرق فأوكرانيا، وقطعاً ايران بالرغم من توقيع اتفاق جنيف النووي معها، حيث تمثل إيران إحدى مناطق تضارب المصالح الأمريكية الروسية الغربية الأكبر في العالم، وايران خاصرة الفدرالية الروسية الضعيفة لجهة الجنوب الروسي الحيوي، ويريد الأمريكيون استراتيجيّاً ضرب إيران أو على الأقل اضعافها، من أجل إسقاط نظامها وإقامة نظام بديل يساعد في استقرار سيطرة أمريكا على العراق، وأيضاً من أجل الاستحواذ على مخزونات النفط الإيراني، إضافة إلى قطع الطريق على مشروع خط أنابيب نقل النفط الذي وقعت على اتفاقيته موسكو وايران، بحيث يتم تمديد الخط من روسيّا إلى إيران ثم إلى باكستان فالهند.

كما تدرك موسكو أنّ أمريكا تجاهد من أجل التأكيد على رهان تمديد أنابيب النفط من السعودية والخليج والعراق، عبر الأردن إلى الدولة العبرية( الكيان الصهيوني) على النحو الذي يمكّن الدول الغربية من الحصول على احتياجاتها النفطية مباشرة من ساحل "إسرائيل" الساحل الفلسطيني المحتل المطل على البحر الأبيض المتوسط.

هذا وتمتاز الدبلوماسية الروسية ببراغماتية متنوعة فريدة من نوعها، ظاهرها ناعم ويوحي بالتراجع أمام أي تقدّم أمريكي مندفع، وباطنها شائك وقوي وصلب يعرف ما يريد في النهاية، وأحسب وأعتقد كمراقب وراصد بأن التراجع الروسي إزاء التقدم الأمريكي أحياناً في بعض المفات الساخنة وغير الساخنة، هو مخطط روسي استراتيجي يهدف إلى عدم الوقوف في طريق الولايات المتحدة الأمريكية، طالما أنها تندفع بأقصى سرعة باتجاه التورط في النزاعات والمشاكل، التي لن تجلب لها سوى الخسارة وكراهية الشعوب، وهو أمر سوف يؤدي إلى الإضرار بقوة واشنطن على المدى القريب، وإضعافها تماماً على المدى البعيد، وفي الوقت نفسه تكسب الفدرالية الروسية الوقت الكافي وتقوم بالمضي قدماً في تطوير التكنولوجيا والاقتصاد، وبناءات قوتها العسكرية ومستلزمات تفعيل مجتمع مخابراتها ومجالاته الجيوبولتيكية، وتحالفاته مع نظيره الصيني خاصةً أنّ موسكو تخلّت ومنذ سنوات من مخاوفها من الصعود الصيني المتعاظم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات