القدير يحرسنا ..


لم يكن ذاك الكهل طاعناً في السن ليُستغنى عن خدماته,,كان مثالاً للموظف المثالي في حضوره وانصرافه, هندامه يليق برجلٍ في مثل سنه , وربطة عنقه فيها من الحداثة شيء, لم يألوا جهداً لتحقيق حياةً كريمه لأبناءه, وفر لهم ولو على حساب نفسه, فأرسلهم الى افضل المدارس حتى كبروا, ومن ثم الجامعات وقد أسسوا لأُسر بعدما تزوجوا..يحمل بين جنبات قلبه حباً كبيراً لرفيقة عمره وشريكته, لكن قد تجري الرياح بما لم تشتهي السفن.

اُسْتغني عن خدماته وأُحيل على التقاعد,, لم يكن الراتب التقاعدي الذي مُنح كافياً لدفع أجرة المسكن وتكاليف الحياة الباهظه..استقر بهم القرار ان يتركوا البيت ولكن الى اين؟؟ كان القرار بين الابناء ممن أفنوا العُمر في خدمتهم وتربيتهم ان يذهب الأب الى بيت أحد الأبناء ليقيم معه لستة أشهر وكذلك الأم الى بيتٍ آخر من بيوت الأبناء, كان القرار بالنسبة لهم صعباً وقد اعتادوا العيش معاً كطيور الحب ,لكن وجودوا انه افضل من ايداعهم في دار العجزة..بكوا ليلاً والأب يحتضن رفيقة عمره حتى أطلّ الصباح,, حاولت كالعاده ان تربط له ربطة عنقه فرد عليها قائلاً لقد حلفت يميناً ان لا استعملها قط.. حملوا متاعهم وخرجوا حتى انتهى بهم العمر فرادى كلٌ في مدينه حيث ابناءهم..

ما أن دخلت الأم بيت ابنها وهي يغمرها الحزن على فراق زوجها,, حتى علا صوت الزوجه حيث لا مكان لها في بيتهم, رفضت الحفيده ان تشاركها الجده غرفتها , واستقر بهم القرار ان يودعوها غرفة الشغاله,, دخلت تجر حقيبتها ولم يساعدها فلذة كبدها في حملها,,جلست طوال الليل تبكي قدرها.. اما الأب فكما حصل لزوجته حصل له,, حتى اشتد الخلاف بين ابنه وزوجته وتراشقوا الكلمات وهو يؤنب والده على قراره, وأنه جلب لهم الازعاج والمشاكل..

لم تبدأ قصتهم بعد,, ففي صبيحة اليوم التالي ذهب الأب صباحاً ليمارس رياضة المشي التي اعتاد ان يؤديها,, واثناء مسيره التقى رجلاً يركض فزعاً يلحق به كلب,, اعترض الأب طريق الكلب وأخذ يمسح على رأسه فلديه خبره في ذلك فقد كان يقتني كلبين في بيته,, ما ان رأى الرجل الهارب ذلك حتى وقف الى جانب الأب يشكره على مساعدته اياه ودفع أذى الكلب, وأخبره ان لديه مقهى ومكتبه في طرف الشارع ودعاه لزيارته..كما ان طريقة تربية حفيدتها لم تروق للجده فحاولت مراراً ان تتدخل لتصويب الوضع وكم قوبلت بالتعنيف والازدراء من قبل ابنها وزوجته وحفيدتها على اعتبار انه تدخل في خصوصياتهم,,

في صبيحة اليوم التالي التقى الكهل صاحب المقهى وأصرّ على اصطحابه الى مقهاه وتقديم القهوه التي تعدها زوجته امتناناً,,اعتذر وطلب كوباً من الشاي ,فقد اعتاد ان تقدمه له رفيقة عمره..وأخذهم الحديث حتى سرد قصته الى صاحب المقهى وزوجته فكانوا خير مؤنسين لوحدته وأخذ يتردد عليهم يوميا ويساعدهم في اعداد جدول الحساب في المقهى,حتى صادف يوماً جمهرةٍ من الشباب والبنات في ذات المقهى يرقصون ويهتفون وقد زُين المقهى بقلوب الحب, سأل الصديق فأجابه ان اليوم هو يوم الحب يكذب الشباب فيه على الفتيات بكلمة أُحبك وضحكوا حتى بانت النواجذ,, أحس بألمٍ يعتصره على فراق حبيبته,, رقصوا وغنوا وشاركهم الفرحه لكن شعر صاحب المقهى بألمه فطلب منه ان يحادث زوجته وفعل..ارتسمت البسمة على وجهه بعدما انهى مكالمته وأحس ان جزءاً من الضيق على صدره قد خف,, وكذلك حدث لزوجته..

ذات يوم وقد كانت تربطه علاقه طيبه وحميميه مع حفيده الصغير وعندما جاء الحفيد يركض ليحضن جدّه وقعت النظاره فانكسرت عدساتها,, أحس بألم شديد فلم يعد قادراً على القراءه , طلب من ابنه اصلاح النظاره فاعتذر الأبن وأخبره في الشهر القادم سأفعل فميزانية هذا الشهر لا تسمح برغم انه وعد ابنه الصغير بشراء الحذاء الغالي الذي طلب.. امتقع لون الأب لرفض طلبه,, وذهب في صبيحة اليوم التالي الى مقهى صديقه حيث يقضي بعض الوقت هناك يحمل رساله من زوجته طلب منهم قرأتها له... قرأتها زوجة صديقه وأحسوا ما فيها من حًب وأشواق فبكوا على فراقهما..حينها طلب منه الصديق ان يكتب قصته فلم يعد في هذه الأيام حُباً كما بينهما,, رفض بادىء الأمر الا ان تشجيعهما له جعله يفكر جدياً في الموضوع..عاد فرحاً في المساء فالتقاه الحفيد بنظّاره جديده فرح الجد بها, وعلا صوت أم الطفل مؤنبه اياه على شراء النظاره بدلاً من شراء الحذاء الذي طلبه..وفي الليل كان لديه آله للطباعه اليدويه كانت بحوزته فتحها وبدأ يكتب حروف قصة حبه,, لكن صوت الطرق على أحرف الآله ازعج زوجة الأبن التي افاقت زوجها مؤنبه اياه على فعل ابيه وأنه يحاول ازعاجها بشتى الطرق حتى خرج الأبن يوبخ ابيه ويُحقّره..

كذلك لم تألوا جهداً الجده في ردع حفيدتها على تصرفاتها الطائشه حتى استنفرت الزوجه وابنها ليوبخوا الجده على تدخلها في حياة ابنتهم الوحيده وغاليتهم,, خرجت الأبنه الطائشه تزبد وترغي, وكان في انتظارها صديقها اسفل العماره في سيارته الفارهه.. ذهبوا الى حيث يقضون ليلهم في الرقص والفرفشة ,,حاول الصديق لأبنتهم الاختلاء بها في احدى زوايا الحانه ,,حاول التعدي عليها وهي تصرخ حتى لكزته في كتفه العجوز وضربته ووبخته,,فقد سارت في اثرها .. انقذت حفيدتها من مصير كاد يكون محتوماً واصطحبتها الى خارج الحانه وهي تذرف الدمع رقراقاً.. لكن كان الوقت متأخراً وقد تجاوزت الساعة لربما منتصف الليل..كان والدي الأبنه المدلله غاضبين وقلقين على تأخرها حتى الساعه وبينما هم في نقاش دخلت الأبنه بصحبة جدتها,, صرخوا بها لكن انبرت الجده لتدافع عن حفيدتها وانها هي التي اصطحبتها وتآخروا في الحديث والمسير ..ما ان انهت حديثها حتى انبرت الزوجه لائمه للجده والأبن يوبخها على فعلتها بكلام قاسٍ..لم تسكت الحفيده بل صرخت في وجه ابيها وأمها واصطحبت جدتها الى غرفتها,, وأجلستها الى طرف سريرها تبكي وتتأسف على رفضها قبولها مشاركتها غرفتها..

مرّت الشهور السته وحان وقت تبادل الأسرى الجد والجده بين البيتين حسب اتفاق الأخوه.. اتصل الجد برفيقة عمره واتفقا ان يلتقيا في محطة التبادل في احدى مدن الوسط.. ما ان نزلا كلٌ من القطار حتى التقيا يحضن كلٌ الآخر مما لفت انتباه المارّه لكنهم لم يعبأوا..كان من المفترض ان لا يتجاوز اللقاء النصف ساعه موعد انطلاق القطارين, لكنه طلب منها ان يودعوا امتعتهما لدى آمانات المحطه ليذهبوا في رحلة استجمام قصيره يحتسوا الشاي ولربما البوظه..أخذتهما اقدامها الى الفندق حيث تعارفا منذ اكثر من اربعين عاماً, وفي الاثناء التقياء صاحب الفندق في الرواق وعندما سألهما عن حاجتهما اجاباه بأنهما منذ الاربعين عاما تعارفا في هذا الفندق ,مما جلب الفرح له وطلب منهما وهو يعلن عن احتفال الفندق بتاريخ تأسيسه وطلب منهما المكوث ذلك اليوم ليشاركاه الاحتفال رفضا لضيق ذات اليد وعدم قدرتهما على دفع مثل ذلك المبلغ فقال لهما انتما ضيفين عندي,, وما ان دخلا الغرفه حتى بعث لهما هندامين غاليا الثمن لارتدائهما اثناء الحفل, فعُلية القوم اليوم يشاركونه..رقصوا في تلك الليله حتى تعبوا,,ناموا تلك الليله وفي صبيحة اليوم التالي خرجوا للتنزه في ارجاء المدينه وفي حدائقها حتى مروا من امام متجر لبيع السيارات الفارهه..تنهد وقال لزوجته كم حلمت ان اقتني سياره يوماً لأعود من عملي اطلق العنان للزامور لتنزلي واصطحبك في رحله طويله,, في الاثناء حاول العامل في المتجر ان يصف لهما السياره وامكانية تقسيط ثمنها الا انه رفض, عرض عليهما ان يجربا قيادة السياره فراقت لهما الفكره, صعدا وذهبا في رحله قصيره وعندما عادا اعتذرا للعامل فليس بمقدورهما شراء السياره, الا انه وبخهما على فعلتهما وضرب العجوز..حتى سقط امام رجل تمعن به جيداً وصرخ بأعلى صوته ابي اين انتما ؟؟فمنذ عودتي من بلاد الاغتراب وانا ابحث عنكما..لكم العامل على وجهه رداً على لكمه لوالده,واصطحبهما الى حيث يقيم فاستقبلتهما زوجته بالترحاب على غير ما اعتادوا من ابنائهما.. لم يكن ابنهما البيولوجي, بل كان ابنهما بالتبني احسنوا اليه وأكرموه ورُبي بين ابناءه لكن لم ينسى فضلهما.. بقوا عنده لعدة ايام وكما في الاحلام الا ان الجد طلب ان يذهبا وبرغم الحاح الأبن الا ان وعداه بالعودة لاحقاً.. قبل أيدي الأب والأم وطلب ان يقبلا هديته فوعد الأب بذلك وعندما فُتح الباب وجدوا السيارة اياه على مدخل البيت,, فرحا فرحاً كبيراً فهذا هو الأبن الصالح الذي لم ينجباه..

لكن لم يكن الجهد الذي بذله الجد هباءً في كتابة قصته, فقد ارسل بها صديقه صاحب المقهى الى دار للنشر وتعهدت بنشرها لقاء مليون دولار,, وما ان ذهبا لزيارته في مقهاه حتى اختلطت الدموع بالفرح على حميمية اللقاء والبشرى بنشر قصة حبه لمعشوقته..سمع الابناء العاقين وقد ادلهمت بهما الحياة وضاقت عليهما لعقوقهما والديهما بالخبر,, اجتمعوا في بيت احدهم محاولين البحث في طريقه لاسترضاء الوالدين ولكن الهدف كان للحصول على بعض المال..وفي ذاك اليوم حيث اقيم حفلاً مهيباً لاطلاق الكتاب , كانوا يتحوطون وزوجاتهم احدى طاولات الفندق الفاخر حيث الحفل,, ما ان انبرى عريف الحفل ليقدم الكاتب قال أطلب من احد ابناء الكاتب ان يقدم لنا والده, فوقف الابن البكر حتى اومأ الأب للأبن الحقيقي الذي رباه ولم ينسى فضله ..فوقف وذهب الى المنصه وسط ذهول الابناء.. تكلم حتى فاضت عيناه, عن صفات هذا الأب الذي اعطى ولم ينتظر,, قال كم نام الأب في ايام الضيق جائعاً ليقدم العشاء لأبناءه.. وكم.. وكم.. قام الأب من مكانه وتحوط الميكرفون وبدأ يسرد قصة حياته ورفيقة دربه وما عاناه في سبيل تقديم كل ما يملك وأكثر لأبناءه وقد قال له احدهم ذات يوم عندما ذهب ليقيم معه ماذا قدمت لنا؟؟ نحن بنينا انفسنا بأنفسنا..انهى حديثه وقد رافق الحديث الدمع رقراقاً في مقلتيه,, وما ان خرج حتى انهال الابناء يحاولون استرضاؤه فرفض وكذلك رفضت الأم...

ليس من المروءة ان نتنصل لرعاية والدينا.. وليس في اسلامنا غير ((ولا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما..وقل لهما قولاً كريما) وكذلك قول المصطفى عليه افضل التسليم ( الجنة تحت أقدام الأمهات) فهل نودِعهما في بيوت العجزه؟؟ أم ننهرهما ولا نرى في المستقبل غير عقوق ابنائنا!! من فضل الله علينا ان قرن رضاه برضاهما..على روح والدي الرحمه..
* قصه حقيقيه فهل لنا فيها عبره؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات