الاستعمار الفكري


مساءً وقبل ان تنام يتسلل شيء غريب الى وسادتك، يجلس قرب رأسك، يندس في سريرك ويتمدد يميناً ويساراً، تطفئ النور فلا ينطفئ هذا الشيء بالظلام، يختفي كل شيء في الغرفة ماعداه، ورويداً رويداً يطغى وجوده على كل ما في المكان، ويختفي حتى صوت التنفس الرتيب الصادر عنك او عن جارتك العزيزة في السرير.. زوجتك، وسرعان ما نكتشف ان هذا الشيء الذي ينازعك ووسادتك يقاسمك فراشك والذي تراه جيداً وانت مغمض العينين، وتسمعه جيداً وانت مقفل الاذنين ليس على مسافة منك، ولا يقرفص بعيداً عنك.انه شيء في داخلك، انه انت في شكل آخر، انه النسخة الثانية منك، على الاصح انه الاصل وانت الصورة، انه ذلك الكائن الذي يملك الحقيقة عنك، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. انه انت، بلا قناع، ولا تزييف، ولا تزويق، ولا مكياج او رتوش ولا مجاملة لكنه على نقيضك، لا يظهر للناس ابداً، لا يذهب الى الحفلات، لا يشاركك المسرات، لا يتنزه في الحدائق، لا يتسكع على الارصفة، لا يسافر في رحلات استجمام، لا يفكر بالماضي...
هذا الشيء هو ما يسمونه –هموم الوسادة- و- خلوة النفس بآخر الليل، انه لا يفكر الا في الحاضر والمستقبل ومهمته ان يعرض عليك احتمالات الجانب الاسود القاتم فقط من الحياة عمله هو ادارة محرك صامت فيك لتوليد طاقة من نوع خاص هي الهاجس والوسواس.
بماذا تفكر في الهنيهات القليلة التي تسبق تلك الثانية السحرية الغامضة التي تخطفك الى النوم؟ اذا كنت تفكر بذلك الفيلم اللذيد من صور احلام اليقظة، أي بالفتاة الحلوة التي تحاول ان تغزوها او بالثروة الطائلة التي ستهبط عليك فجأة من السماء ، او القصور التي ستبنيها في ارض الحسناوات، فانت واحد من ثلاثة، اما طفل، واما رجل تعطلت لديه آلة حس الزمن والحياة والواقع، واما شخص انعمت عليه الدنيا بالجنون.
كنا نظن حتى اليوم، ان هذا الشيء المقدس لدى الانسان، هذه المساحة الحميمة السرية من النفس البشرية، هي التي ستبقى سالمة دون ان تتعرض الى أي نوع من الغزو الخارجي.
اليوم ندرك اننا على خطأ، هذه المساحة بالذات تعرضت الى غزو بطئ زاحف على مر السنين، ولم يكن الغزاة الجدد سوى القدماء انفسهم...ولكن تغيرت الوسائل والأدوات في ظل ثورة التكنقراط، وأصبح الفكر هو نفس الفكر الاستعماري واسلوبهم قد تغير.
الغزاة القدماء هم، فكر توسعي واحتلال ارضي باسلوب القوة المسلحة الطاغية، الغزاة الجدد غيروا الاسلوب ولم يغيروا الفكرة.
عصبة الامم الصناعية العظمة- احفاد شايلوك- التي تتحكم بمصائر الاكثرية الساحقة من شعوب عالمنا المتخلف،وضعت لنفسها هدفاً محدداً، ان يتساوى الجميع في الفقر، وحتى الدول الغنية، النفطية ففي العالم الثالث وضعوا لها الخطط لكي تفتقر بالتدريج، وتتساوى مع الجميع، فلا تبقى عنصر قوة لا لنفسها ولا لغيرها.
عصبة الدول الصناعية العظمة تطبق منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي سياسة جديدة غايتها التسلل الى ذلك الحيز السري في داخل الانسان في العالم المتخلف، لتضع فيه فكرة واحدة وحلماً واحداً هو- لقمة العيش ولا أي شيء آخر على الاطلاق.
عصبة الدول الصناعية العظمى اكتشفت انها ارتكبت خطأ شنيعاً عندما سمحت لشعوب العالم المتخلف بالتفكير في امور اخرى، مثل الحرية، والاستقلال، والديمقراطية والوحدة وقد شرعت بالعلاج الناجع ............
وكان التشخيص بسيطاً- البطون الملآنة تملك رفاهية التفكير والطموح والنزوع الى الافضل حتى أصبحت الثروة والعلم تشكل الخطر.
اما الافواه المفتوحة من الجوع فلا تمتلك الا رفاهية التفكير بلقمة العيش، وكان العلاج، ان يزداد الفقراء فقراً، وان ينحدر الاغنياء الى مرتبة الفقر والعوز.
ما نراه اليوم في الارض العربية وعلى مدار قوس العالم المتخلف هو التنفيذ العملي لسياسة عصبة الدول الصناعية العظمى، انها حرب جرثومية لنشر الجوع في كل مكان خارج حدود تلك الدول.
هذا الشيء الذي هو فعلاً أعز ما نملك، هذه الثروة التي لا نظير لها، هذه الارض البكر التي لم يطأها احد سواك قبل اليوم، ولن يدوسها احد غيرك الى آخر نفس في حياتك، هو الخسارة الفادحة التي حلت بك دون ان تدري...
فما الذي ستجده في وسادتك هذا الليل؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات