لا ذكريات بالمدينة


المدينه تتطور باستمرار .. ما قائم عليه اليوم ليس ما كان عليه بالأمس ... منزل الطفوله اختفى .. شق شارع مكانه .. يعني اذا اردت ان اعيد ذكرياتي بمنزل والدي قبل 40 سنه يجب علي ان اجلس بمنتصف الشارع .. ممكن ان اتعرض للدهس ...

الملعب الترابي... اقيم مكانه مجمع تجاري ضخم ... داخل المجمع كنت هنا العب بالكره / بالتراب ... الأن .. المكان امتلأ محلات تجاريه .. الزبائن تدوس على ذكرياتي من غير قصد .

اصطحبت اولادي الى مكان طفولتي بالمدينه ... اشير بأصبعي لهم الى مكان كنت به الهو .. يضحكون ... يستغربون .. الى ماذا يشير هذا الرجل ؟ ... يشير الى نفق سيارات .. هنا كان يلهو ويلعب .. ولماذا لم يزل حيا ؟ .. كيف نجا من السيارات ؟ .. ايعقل ان هناك شخص عاقل يلعب بنفق سيارات ؟ ... اوضح لهم بأن هذا النفق لم يكن قبل 35 سنه تقريبا وانه جديد ... كيف سترتسم لهم صورة المكان بمخيلتهم وهو قديم ؟ ... لا ادري .. المدينه تتطور .. لا ذكريات بالمدينه ...

كنت طفلا لي مخيلة عن العالم .. بدأت بريئه .. بسيطه .. متحابه ... ورديه ... ثم تدريجيا اجتاحها رويدا رويدا الند .. الشر ... الانانيه ... الحسد ...الاستغلال .. الانتهازيه ... حتى طغى على مساحه شاسعه من مخيلتي .... العالم سيء بكل معنى الكلمه ... بدأ صراع الخير والشر بعد ان تعديت مرحلة الطفوله بوقت ... الأن ... الطفل مخيلته مليئه بالاحداث الداميه .. بالحزن .. بالشر .. بالحسد .. بالانتهازيه ... بالخوف .. بالانعزاليه .. قضت المدينه على الاحلام الورديه للطفل ....

لم يعد هناك ملعب ترابي .. ولا مساحات للعب ... ولا سرقه اشجار اللوز والتين والعنب من الجيران .. ولم يعد بمقدورهم مطاردة ( فراشه ) تطير منهم بخفه ودلع من زهره الى زهره .. الاسوار ارتفعت .. وتكدست الناس بصناديق مغلقه اطلق عليها ( شقق سكنيه ) ... الاطفال حشروا بقوالب اسمنتيه ... كالسجون ... ذكرياتهم عباره عن صور الصقوها على جدران غرفهم تبين نموهم التدريجي .. صور كرتون .. صور لاعبين .. صور فنانين وفنانات .. مفصولين عن العالم الخارجي ... نظرهم فقط هو الذي يسافر عبر نوافذهم الى الخارج .. ما ان يسير بصرهم بضعة امتار عبر النوافذ حتى ينصدم بعماره اسمنتيه اخرى مليئه بالشقق .. يتبادل الاطفال النظرات فيما بينهم خلف الشبابيك ... لا ذكريات بالمدينه .. المدينه تتطور .. وتتغير .. وتمسح الماضي .. انت بالحاضر .. اما المستقبل .. العمارة التي تقطنها الأن او مكان سكنك او حارتك قد يصبحان شارع .. نفق .. مؤسسه تعليميه .. مول ... اتوستراد .. مخازن للأيجار ... او مستودع اقمشه ... أو مشغل خياطه ... ربما حديقة طيور ... او حتى مكب للنفايات .

كنت اسكن مع عائلتي بمنطقة تسمى ( اسكان القويسمه ) بعمان .. وهي بيوت سكنيه خصصت للموظفين من كافة القطاعات .... وهي منطقه قريبه من مؤسسه الاذاعه والتلفزيون قبل 35 سنه .. كان هناك سكة حديد بمنطقة سكني وانا طفل .. حيث هذه سكة الحديد لا زالت الى يومنا هذا ولكن ( القطار اختفى ) .. اتذكر جيدا كيف كان يسير القطار مطلقا صفارته بالاجواء .. كان اجمل شيء مر بحياتي .. لونه أسود .. ويخرج منه دخان اسود رائحته نتنه نتيجة حرق ( الفحم ) ... كنا نضع ( مسامير) على السكه قبل قدوم القطار .. وما ان يدوس عليها القطار حتى تصبح مثل ( الورقه ) شكلها مضحك .. كنا نضحك .. نضحك .. نضحك كثيرا .. يا لبساطة الحياه .. كل ذلك اختفى .. بقيت سكة الحديد اعتراها الصدأ .. لم يعد هناك قطار يمر .... ولم يعد هناك اطفال .. لقد ذهبوا .. ذهبنا جميعا .. اختفىت الاطفال .. الم اقل لكم بأن الاطفال قد حشروا بصناديق اسمنتيه ( شقق ) .. اطلقوا سراحهم .

ما اجمل (الباديه والقريه ) .. اجمل بكثير .. اجمل بمليون الف مره من حياة المدينه .. لا ذكريات بالمدينه .. الحياه والذكريات فقط بالقريه والباديه ... البساطه والمحبه والكرم والمكان هو المكان .. بعبقه ورائحته وعيشه واشجاره وطرقه القديمه .. وحتى تطورهما يراعي حرمة المكان .. يراعي ذكريات المكان .. تطورهما لا يقل تطورا عن المدينه .. ولكن .. لا جرافات تجرف الاخضر واليابس عندهم .... لا استغلاليه ولا مصالح ولا انانيه لديهم .. لا يقتلون المكان والذكريات من اجل تجاره عابره ..ولا يستهترون بحياة الانسان وذكرياته ومكانه ... ان غبت مليون سنه عن القريه والباديه وعدت اليها ستجد شجر الصنوبر والتين والعنب والزيتون هي هي وقد عمرت .. ستجد كل شيء بمكانه .. هنا كنت تجلس .. هنا كنت تلعب .. المكان هو المكان .. لا اقتحام او هدم او تشويه للمكان وللأنسان .. عكس المدينه ..

يوما ما .. عند عودتي لمكان طفولتي بحثت جاهدا عن جارنا القديم .. عن اولاد الحاره .. لم اجد احد .. الوجوه تغيرت ... والمكان كله تغير .. كنت اتمنى ان اجد جار لنا يجلس امام بيته يتناول كوبا من الشاي او يحمل ( مسبحه ) وقد اعتلى رأسه شيبا وظهرت عليه مظاهر الشيخوخه .. لأسلم عليه ..لأقبله ... لأسترجع معه بعض الذكريات .. لم أجد .. كنت اتمنى ان استعمل كلمة ( بتتذكر ) مع احدهم .. لم أجد .. هذه هي المدينه ... عباره عن اشخاص من كرتون ... لا حياه فينا ... لا ذكريات ... الحياه بالباديه والقريه فقط .. هناك الحياه .. الذكريات عندهم .. كل شيء لديهم... الماضي والحاضر والمستقبل هو والله عندكم .

اعيش بشقه سكنيه الأن بالمدينه .. لم أسجن اطفالي .. عودتهم على الانطلاق بالحاره .. ليصنعوا لهم ذكرى .. ليتفاعلوا مع الحياه .. اخترعوا طرقا كثيره ليعيشوا مثل ايام زماننا نحن الكبار .. طرق تثير الضحك .. يجدون التراب بطريقتهم الخاصه للعب فيه .. صنعوا ملعب ترابي .. وجدوا اليه للوصول الى اشجار الجيران لقطف التين والعنب والتفاح وحتى الورد .. يصطادون الفراش والسحالي وهم بوسط المدينه .. من اين يأتون بها لا ادري.. انا اضحك ...عملوا ( شله ) من الاطفال .. شجعوا بعضهم ... عملوا مراجيح وسحاسيل بطرقهم وافكارهم الخاصه .. اوجدوا لهم كيان ومجموعه لها حضور بوسط المدينه ... فعلا فرخ البط عوام .. تتكرر علي عباره ( ضب ولادك ) كثيرا من الجيران والناس .. سمعها ( والدي ) ايضا من قبلي كثيرا . ولكننا استمرينا باللعب . لم يوقف احد بطريقنا .. قطار الاطفال لا يوقفه احد .. انهم هبه من السماء .. يجب ان يصنعوا لهم ذكرى ..

.. انا أبن حاره ... منذ شروق الشمس الى مغيبها .. انا ولدت بالحاره .. وعشت بالحاره .. انا ترباية شوارع ( مجازا ) ... بيت والدي كان بالنسبة لنا ( أوتيل ) للأكل والشرب والنوم فقط .. حياتنا وشهادة ميلادنا ومسقط رأسنا هو الحاره ( التراب / والطين / والشجر .... ) .. نحن سكان المدينه محرمون كثيرا من عبق الحياه وبألاخص الاطفال .. اني احسد اطفال الباديه والقريه .. هناك الانطلاق . هناك الحريه ... هناك العالم كله ( للكبير والصغير ) .. لا قيود ... هناك البصر الشاسع .. هناك الادراك ... هناك التأمل .. هناك الكرم وامحبه والأخلاص .. هناك الجار للجار .. هناك التقوى .. هنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاك منبع وأصل الحيـــــــــــــــــــــــــــــــــــاه.



تعليقات القراء

[-t-t
ان اكبر منك بالسن ولدت بمدينة ليست العاصمةعندما اذهب اليها تعود الي ذكريات الطفولة واحن لها واشعر بالكثير مما تقول الا اني اشعر بان اولادي عاشوا حياة اسعد مني فما منعهم عيشهم في المدينة من تحقيق ما تقول علما بانه يتوفر لاطفال اليوم اشياء افضل بكثير من اطفال الامس كالتلفزيون والكمبيوتر ووسائل التنقل --الخ ومع ذلك احن لايام طفولتي رغم اني لم اكن سعيدا مثل البعض وكثير من اطفال اليوم عاشوا حياةاسعد من اهلهم
29-10-2013 01:44 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات