الشّماشير والرّابش


في قاع المدينة، ثمة سوق كبيرة يرتادها المُعذّبون في الأرض، من طفارى، ومساكين، وموظفين يحبو يومهم، وشهرهم، وسنتهم ببطء السلحفاة. إنّها سوق البالة والشّماشير والرّابش. هذه السّوق على أصناف؛ فالبالة هي الأغلى سعرًا، تليها بسطات الشّماشير فالرّابش. فإذا كان سعر البنطلون في البالة ثلاثة دنانير مثلًا، فقد تأخذه بدينار عن بسطة الشّماشير، وبربع الدينار عن بسطة الرّابش. ويعود هذا الفارق في الثّمن إلى مقاييس المواصفات والجودة؛ حيث تزداد نسبة ( الدّلعجة) و( الجعلكة) في الصنفين الأخيرين مقارنة بالبالة. وفي الوقت الذي يرتاد فيه عِلية القوم من طبقتنا من الطفارى صنف البالة، فإنّ( المشرتحين) ماديًّا هم روّاد الشماشير والرابش.
المهم في الأمر هو المهارات اللازمة التي يجب أن يتمتّع بها المواطن هنا؛ يجب أن يكون ذا عين ثاقبة عند معاينة البضاعة؛ فإذا أردت شراء (جوز) جرابات مثلًا، فعليك أن تدخل كفك كلها داخل كلّ فردة، ومن ثمّ تفرد أصابعك أفقيًّا قدر استطاعتك؛ وذلك للكشف عن أيّ (خزق) غير بادٍ للعيان.
أضف إلى هذا مهارة التّفاوض على السعر، والأخذ على البِيعة؛ فإذا طلب البائع دينارًا لغرض ما، فسارع إلى الرجوع القهقرى مهدّدًا إياه معنويًّا بعدم القبول بهذا الثمن الباهظ، فيعود مخفضا السّعر ربع دينار، وما بين النّكوص إلى الوراء وتخفيض الثمن، قد يستقر الاتفاق على أن يكون الثمن النهائي عُشر ما طلبه في بداية التفاوض. ولابدّ من تذكر أن تأخذ شيئا آخر مجانًا على ( البِيعة)، كفوف للشتوية على سبيل المثال لا الحصر.
في السّوق، تتعالى أصوات الباعة للترويج؛ صبيّ يعتلى بسطة غيارات داخلية ولّادية يصيح بأعلى صوته: خمسة بخمسة، أي كل خمس قطع بخمسة دنانير- سعر أوّلي طبعًا.
وفي السّوق، "الكلّ زطٌّ مساواة محققة تنفي الفوارق بين" زيد وعمرو. والأكثر من ذلك قد تنشأ صداقات عابرة على إحدى البسطات بين النّسوة، بعد تعارف سريع، ويكثر تبادل الخبرات الشّرائيّة بينهن، ولا سيّما من كنَّ منهنَّ ضليعة في دهاليز البالات وأصنافها، من حيث الجودة والعمر الافتراضي للقطعة، وبلد المنشأ الذي قد ينحصر في الأحذية الإيطالية، والملابس الألمانية. أمّا البضاعة الصينية فقد لا يكون لها وجود بسبب سوء التقليد الذي جُبلت عليه الصّين وفقًا لمعلوماتنا.
في كلّ مدينة قاع يؤمّه الموظفون والعمال والغلابة ومن على شاكلتهم؛ ففي إربد يقع سوق البالة على( التّلّ) حيث يقابلك على المنحدر سوق البرادي تقابله بسطات الرابش والشماشير بروائحها المميزة، التي يختلط فيها العفونة بالرطوبة، مصحوبة بروائح الأحذية المدلاة فوق الرّؤوس والهامات- حقيقة لا مبالغة- وروائح الغيارات البياض كما يصيح أحد الباعة الذي يتصبّب عرقًا.
سوق البالة، مَعْلَمٌ معروف للقاصي والدّاني، فإذا أردت أن تحدِّد سرفيس شارع فلسطين مثلا، فما عليك إلا أن تقول بأنه يقع جنوب البالة. هذا المعلم مثله مثل دوار سال الكبير، أو دوار الساعة. ومن المعالم الرئيسة في العاصمة عمان: سوق الجمعة في العبدلي حيث يتناهى إلى سمعك بين حين وآخر أحد الباعة مناديًا: ريحاوي يا موز، عجلوني ياعنب، في الوقت الذي تقيس فيه طول البنطلون و( الكمر) أي الخصر. ومن ملحقات هذه الأسواق محال الاسكافية والكندرجية، حيث لا يخلو الأمر من( درز) حفاية، أو توسيع حذاء.
نحن الطّفارى؛ نقدّر عاليًا القرارات الحكومية في رفع الضريبة على الملابس الجديدة والستوكات دون المساس بملابس البالة والشماشير والرابش. مع علمنا الأكيد في أنّ الحكومة الرشيدة( تتحركش) بالمواطن؛ أي تستفزه بين فينة وأخرى، بمسلسل الرفع الذي يبدأ بحلقة أولى وثانية ولكن دون التّوقف عند حلقة أخيرة؛ مسلسل مكسيكي يتضمن مئات الحلقات التي يضطر المواطن إلى مشاهدتها والتّأقلم معها. شاء أم أبى. ولسان حاله يقول:
سأصبر حتى يعجز الصّبر من صبري ..
وأصبر حتى يأذن الله في أمري ..
سأصبر حتى يعلم الصّبر أنّي صابر على شيء أمرّ من الصّبر



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات