التكفير .. ومشاريع الإبادة القائمة ..


يبدو أن تحليل مايجري في البلاد العربية من فوضى وقتل ومجازر وحشية ترتكب بدم بارد يحصره الإعلام والساسة في العوامل السياسية فقط ،وتستخدم مصطلحات الإقصاء السياسي والأخونه والعلمانية والعمالة والمال والبترول والمؤامرات ومحاربة الدين وإطلاق أحكام التكفير والخيانة وغيرها دون محاولة فهم الأسباب الحقيقية لما يجري .

فما الدافع الرئيس لان يتم قتل الناس وسط اعتصامات سلمية حاشده !

وما الدافع من إلقاء قنابل كيميائية على مدن وقرى آمنه ويقتل فيها الآف الأطفال والنساء والشباب بدم بارد !

ما الدافع لان تدمر الأوطان وتعم الفوضى تلك الدول دون وجود راشدين عقلاء .!!

لماذا فشلت بعض الأحزاب من تسيير أمور الدولة ومنحت الصلاحية للأجهزة الأمنية والقمعية وباتت الناس تخشى منها حتى وهي منضوية تحت نفس الفكر والحزب ! فغالبية أعضاء حزب البعث مثلا في سوريا او العراق كانوا يخشون سطوة الأجهزة التي تحكم بلادهم بالرغم من انتمائهم للحزب ! وبدل أن يسيّر الحزب تلك الدولة فقد رأينا أن الأجهزة القمعية هي التي تسير البلاد ! وحتى داخل تلك الأحزاب التي ضمت الملايين في عضويتها فغالبيتهم لايجروء على طرح أفكاره او نقد مؤسسات الدولة ،وان انضمام الغالبية لايتعدى الإفادة من "مكاسب الحزب والوظيفة وتحسين شروط العيش وتوفير سبل الأمان له ولعائلته!

ان حالة المواطن داخل أحزاب الموالاة (قومي او ديني او ليبرالي )لا تختلف كثيراً عن حالة المواطن غير المتحزب كلياً، فقد رسخت هذه الأحزاب نوعاً آخر من القهر, عندما أجبرت أعضاءها على ترداد شعارات وهمية وإخضاعهم الأعمى لإرادة القيادة السياسية العليا او للمرجعية الدينية التي تبدو وكأنها المعصومة من دون الناس ،هذه الإرادة التي تناقضت غالباً مع مصالح الجماهير التي يحتك بها هذا العضو الحزبي العادي أكثر من غيره، فهو الذي يكتشف في الواقع العملي مدى ابتعاد إرادة الزعيم عن مصالح وقضايا الجماهير الملحة. ، بالتالي أدى التنظيم الحديدي للزعيم إلى تقزيم شخصية عضو الحزب, فلكي يكون عضواً حزبياً"جيداً" عليه أن يكون مريداً للزعيم ويتخلى عن مبادئه.

يبدو أن المسائل تنحصر ليس في عوامل سياسية فحسب ، بل وعوامل نفسية واجتماعية وثقافية وأخلاقية لم يتنبه لها الناس ولم يمنحها الساسة والإعلام وعلماء النفس والاجتماع دورها ،فأصحاب الربيع العربي الذين انقلبوا على طغاة الحكم في دول عده ،عادوا لينقلبوا على الحكم الجديد الذي أفرزته تلك المرحلة الثورية ! وتنتشر بعدها الفوضى والقتل وتقع المعارك بين حلفاء الربيع أنفسهم كما الحال في كل من مصر وتونس واليمن وليبيا أمام أزمة تعيشها البلاد.

لقد تشكلت وعلى مدار عقود طويلة من حكم الاستبداد والقهر والملاحقة في تلك الدول سيكولوجية الاضطهاد سواء أكانت فردية او عقائدية او طائفية ومذهبية ،وباتت المخاوف المرضية التي تشكلت لدى المواطن العربي مع طول فترة الاستبداد بدلت كثيرا من سيكولوجية هذا المواطن وجعلته دوما في حالة تأهب للدفاع عن نفسه او عقيدته او مذهبه ،ووجد ان المواجهة والقتل والتخريب هي الأدوات المتاحة لحماية نفسه مستبعدا أية أدوات أخرى "حضارية " لم تؤسس أصلا داخله هي التي تمكنه البقاء حيا ...

تحليل قتل الآخرين وإطلاق النار عليهم وتصفيتهم حتى بشكل جماعي ليس قرارا ذا مرجعية سياسية فحسب ،بل عملية سيكولوجية وأخلاقية معقده بنيت ضمن مخاض زمني طويل من الاستبداد والقهر ،وأفرزت عقلية " غير سويّه" تحلل حتى القتل الجماعي ،المسلم يقتل مسلما بفتوى شرعية !! والمسلم يقتل المسلم بقرار سياسي ! فمن منهما على صواب !! وماهي ارتدادات تلك الفتاوى على نفسية المواطن العربي سواء أكان قاتلا او مقتولا او شاهدا ! ومن أخرجها لتكون هي المنفذ الوحيد للتعامل مع الخصم !.

لقد تشكلت ايدولوجيات ثقافية واجتماعية متعددة غير منسجمة بالمطلق ومتحاربة أحيانا ليس في طبقات الحكم بل وفي جموع الناس ، فسيكولوجية الجماعات السلفية مختلفة مثلا من جهة إلى جهة (تكفيرية وجهادية ومعتدلة ) وشتان بين تلك الفرق في السلوك وأدوات المواجهة ،وشتان كذلك بين الفرق الإسلامية المعتدلة التي تعرف بالإسلام السياسي بين دولة وأخرى تبعا لأنظمة الحكم وما عاشته من اضطهاد وقمع او مشاركة في الحكم ( إخوان او وهابية ) ويبدو أن الإسلام " العجمي " في تركيا او ماليزيا يختلف عن الإسلام " العربي " في طبيعة إدارة الأزمات ، فما جرى من انقلاب على الشرعية في مصر حدث في تركيا في العقدين الماضيين ،ولم تكن ردة الفعل متشابهة مطلقا ، ولم يقتل في الشارع في تركيا مواطن واحد ،فيما بلغ القتلى في مصر وزادوا عن خمسة ألاف بسبب ردة الفعل الغاضبة وفتاوى تكفير العسكر ومواجهتهم في الشارع قابله العسكر بنفس الخطاب المتطرف وحدث ما حدث ،وما يجري في سوريا والعراق يتبع نفس العقلية والسيكولوجية المشبعة بالحقد والفتاوى المختلفة (دينية او سياسية )والمعادية للأخر وبالتالي يكون قرار التصفية والقتل هو اول قرار يتخذ للمواجهة !

سيكولوجية القتل الجماعي وتعاطي المواطن العربي مع الأحداث بشكل مخالف ومخيف تحتاج في بلادنا إلى دراسات وحسابات وتوصيات تعيد بناء الإنسان العربي من جديد ،لان المواطن العربي صاحب الربيع العربي ليس مهيئا كما يبدو لان يتعامل مع الانظمه السياسية بالطريقة المثلى ،والأنظمة نفسها ليست مهيأة لان تتعامل مع الحراك العربي بطريقة حضارية ،فكلاهما نتاج مدخلات قهر وظلم واستبداد استمر لعقود طويلة ..

علينا بناء قاعدة أخلاقية وثقافية ونفسية وإنسانية تمنحنا الفهم الصحيح لقيمة الإنسان وحقوقه وأسلوب التعاطي الحضاري معه،فما يعيشه المواطن ويتعايش معه من أحداث دموية وقتل وتخريب في مرحلة ما بعهد الثورات العربية "ادمنته" على العيش والتكيف وسط تلك الأجواء ،ولم يعد مباليا ما إن قتل او حرق طفل أمامه ،او أبيد المئات او احرقوا ، فقد اعتادت نفسه تلك المظاهر وبدا يتكيّف معها ،ويبني أسس نفسية " مخيفه "بسببها تجعله يبدل من تعامله مع الآخرين بشكل غير مقبول.

مايجري في مصر وتونس وليبيا " من مواجهات ومحاولة إقصاء او تكفير الأخر يدلل على عمق المأساة التي يعيشها الفكر العربي السياسي ،ويمهد لخلق أجيال لايمكن لها أن تواجه أزماتها ومشكلاتها بالطريقة المثلى كما ينبغي ، بل وستلجأ هي الأخرى لتكرار السلوك والمنهج غير الحضاري والمتطرف في التعامل مع الأزمات ومع من يخالفونهم الرأي ،وتلك جريمة عظيمه تضاف إلى مجموع الجرائم التي ترتكب بحق الإنسان العربي وتجعله اقرب إلى الإنسان الأول وسلوكه في التعاطي مع الحياة ... حيث تنتشر مظاهر العنف والقتل والإقصاء ومشاريع" الإبادة " القادمة في ظل سطوة الفكر التكفيري الذي يلغي إسلامية وإيمان الفرد لمجرد خلاف في وجهة النظر ...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات