واقعنا والمشاريع المأزومة


يستحق المواطن العربي – دون شك- حياة افضل بكثير من الحياة التي يعيشها اليوم، وله الحق في تكوين ثقافة عقلية وفكرية تساعده على التفكير الاجتماعي والسياسي بشكل عقلاني ومنطقي بعيدا عن التعبئة الايديولوجية، والتحشيد السياسي والطائفي، الذي لا يراد منه سوى تحويل الشعوب عن التفكير بمصالحها وحقوقها.

ان المواطن العربي يقع بوعي او دون وعي منه ضحية لتضليل وتمويه رجال الدين والسياسة وتسلطهم الفكري الذي يمارس عليه في الاعلام والجامعات والمدارس والمساجد، ومختلف المؤسسات الثقافية والسياسية منذ سنوات طويلة.

لقد اتضح ان التغني بالأمجاد لا يراد منه سوى اخفاء عيوب الواقع المرير والتمويه على مآسيه، والتغزل بالمستقبل القادم لا يخفي سوى الفشل في حل مشكلات الحاضر، وتوجيه اللعنات للغرب لا يحقق سوى التنفيس عن حالة الفقر والإفلاس الفكري والمعرفي، والتمويه عن العجز السياسي الذي يكبل مجتمعاتنا.

أما الشعارات الدينية التي تطلب الخلاص والنهوض فقد اتضح انها شعارات لا تخدم سوى الفئات المستفيدة منها، ولا تزيد المجتمع العربي الا انقساما وفرقة، وساهمت في انشاء فكر سياسي يعج بالأوهام السياسية والانحرافات العقائدية، وتحول هذا الخطاب في يد بعض الفئات الى وسيلة للهيمنة والسيطرة ومصادرة العقل، وبيد فئات اخرى الى وسيلة للهروب من الواقع ورسم عالم خيالي جميل، وبيد فئات اخرى الى وسيلة لتصفية الحسابات السياسية.

ان الثقافة العربية المعاصرة ليست بحاجة الى مزيد من التيارات الفكرية تضاف الى المدارس الايديولوجية التي تتصارع داخل ساحاتنا الثقافية والسياسية ( اسلاميين، قوميين، ماركسيين، اشتراكيين... بقدر ما هي بحاجة الى اعادة النظر في كل ذلك الانتاج الفكري، والبحث عن طرق مختلفة في التفكير الاجتماعي والسياسي، بعدما اتضح أن معظم تلك المشاريع الفكرية وصلت الى طرق شبه مسدودة، ووقعت في مشكلات تنم عن عدم قدرتها على استيعاب الواقع الاجتماعي والسياسي العربيين، وفقدت الكثير من قيمتها الواقعية وقدرتها التحليلية لفهم هذا الواقع المعقد الذي يعاني من: الاستبداد بأشكاله المتعددة، والطائفية، والفقر، والبطالة، والتخلف، والفساد، والتبعية، وفشل مشاريع التنمية، وصراع الهويات...

فهذه المشاريع الايديولوجية مشاريع مثالية؛ بمعنى أنها تنطلق من الفكر، وتحلل الفكر، لتصل الى فكر معين تعتقد أنه ينطبق على الواقع ويحل مشكلاته كافة، دون اعطاء الواقع الاولوية التي يستحقها، فالمهم في هذه المشاريع هو الاتساق المنطقي والصرامة الفكرية، وليس امكانيات التطبيق والقدرة على حل المشاكل.

وهذه المشاريع مشاريع عاطفية وجدانية بالدرجة الاولى؛ بمعنى أن أصحابها قد بنوا أفكارهم وتصوراتهم بناءا على رغباتهم وعواطفهم وحماستهم، تدفعهم عاطفة صادقة في حب اوطانهم وأمتهم وتراثهم، الا أن تلك العواطف النبيلة والحماسة الصادقة، لا تؤدي الى نتائج تتناسب مع تلك العواطف والحماسة، ان لم تقترن بفكر منفتح، وعقلية واقعية، ومنهج تحليلي، وقدرة على ممارسة النقد وتقبله حتى في أكثر المسلمات بداهة.

وهذا يعني أن المشاريع المشار اليها كانت بحاجة الى ان تُفهم اكثر من ان تُصنّف، أن تفكر بما هو موجود أكثر من تفكيرها بما ينبغي أن يوجد، وأن تقف مع كل المجتمع وليس مع فئة معينة، وأن تأخذ بعين الاعتبار مختلف وجهات النظر ولا تتحيز لوجهة نظر بعينها، وأن تهتم بالمستقبل اكثر من الماضي، وبالحاضر اكثر من اهتمامها بالمستقبل والماضي، وأن تتفهم الاختلافات أكثر من سعيها الى التوحيد القسري.

واذا كنّا لا نعترض على الهمة الاخلاقية العالية لأصحاب تلك المشاريع، بل نكن لها كل التقدير، لأنها صادرة عن شخصيات نبيلة تضع على كاهلها مشاكل وهموم شعوبها كافة، الا اننا نعتقد أن الطريقة العاطفية والوجدانية في مواجهة المشاكل طريقة غير مجدية، ولا يكتب لها النجاح في كثير من الاحيان، لان الطريقة العاطفية قد تريح النفس وتسكن الانفعالات ولكنها لا تحل المشاكل.

فالفقير على سبيل المثال ليس بحاجة الى دروس في الاخلاق حتى لا يسرق، بقدر ما هو بحاجة الى دخل كريم يجعله لا يفكر بالسرقة أصلا، والطائفي المتطرّف ليس بحاجة الى دروس في التسامح والمحبة، بقدر ما هو بحاجة الى أن يعيش في ظل ظروف لا تهدد وجوده الديني، ولا يشعر فيها أنه بحاجة الى طائفته او أنه مستهدف. والمواطن ليس بحاجة الى دروس في الوطنية ومحبة الاوطان، بقدر ما هو بحاجة الى نظام سياسي يحترم حقوقه، لان هذا الاحترام هو الذي يجعل الوطن يكبر في فؤاده.

وهذا يعني أنه لا بد من الوقوف على آليات تفكير الناس للكشف عن كيفية تسرب الاوهام السياسية والافكار المزيفة الى عقولهم، وكشف كيف يتم اقصاء الواقع تحت ضغط العواطف والاحلام السياسية والدينية، فكيف يستطيع انساننا العربي بناء عالم جميل ومثالي وبطولي، وقدماه مغروزتان في الوحل لدرجة أنه لا يستطيع ان يحركهما؟
• عضو رابطة الكتاب الاردنيين



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات