أزمة الديمقراطية في المنطقة


كانت النخب الحاكمة تعتقد أنه يمكنها الاستمرار في مواقع السلطة دون الحاجة إلى تأييد شعبي حقيقي ،ورأت في تطويع شعوبها وإجبارها على الخضوع،الطريق التي تكفل لها الاستمرار في الاستئثار بالسلطة والثروة.

وكان لهذا الاعتقاد آثاره المدمرة التي أضعفت هذه الدول،وجعلتها فريسة سهلة تثير شهية الدول الكبرى.ولم تكن السلطات الحاكمة ،وهي تمعن في إخضاع المجتمع وخنق حرياته وقمع مبادراته ،تحسب أي حساب للعامل الخارجي .فقد كان ترويض الداخل،وتدجين المجتمع بكافة وسائل القمع المتاحة هاجسها الأوحد وهدفها الأول.

بدأت الأمور بالتغيير مع تفكك الدول الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفياتي ،واتساع موجة العداء في الولايات المتحدة لشعوب المنطقة،خاصة بفعل وسائل الاعلام الصهيونية التي اتخذت من ظاهرة الحركات الاحتجاجية والتحررية الاجتماعية ،وما رافقها من عنف،مادة يومية لها بدون التعرض لأسبابها الموجبة وظروفها الموضوعية.فتحول الوطن العربي إلى هدف متقدم للامبريالية العالمية والصهيونية ، لكون مركز الدائرة الاستراتيجي ،إلا أن التحول التاريخي في الموقف الأمريكي والغربي من دول المنطقة قد حصل بعد أحداث /11سبتمبر/التي أدت إلى تصدر مسألة الارهاب قائمة الاهتمامات الدولية،وانصب جهد الإدارة الأمريكية على مكافحة الارهاب الذي حُدّد مصدره بالعرب والمسلمين ،وطالبت هذه الإدارة دول المنطقة بتجفيف منابع الارهاب والقضاء عليه.

وبعد أن كانت النخب العربية الحاكمة مطمئنة إلى متانة أنظمتها الأمنية ،التي نجحت في تصفية المعارضة،أصبح هذا الوضع مصدر قلق كبير لها عندما أعطى القوى المتنفذة في الساحة الدولية الذرائع الكافية للتدخل في شؤونها الداخلية والتحكم بقرارها.وأصبحت قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان لدى النظام الدولي الأحادي مرتبطة بإرهاب الخصوم،مبررا سياسيا في إباحة التدخلات بل وشن الحروب.

وكان الرد الرسْمي العربي في أن الاصلاح لا يأتي من الخارج وأن الديمقراطية لا تستورد،ولابد من القيام بإصلاح ديمقراطي حقيقي يلبي الحاجة الداخلية للمجتمعات العربية .

والمطلوب اليوم ليس كما يشيع البعض من المعادين للمشروع الديمقراطي،إقامة ديمقراطية على الطريقة الأمريكية ،ولا تقليد أي نموذج آخر للنظم السياسية، وإنما المطلوب توسيع دائرة الحريات والحقوق التي تسمح للرأي العام والأفراد على اختلاف انتمائهم ومستوياتهم الثقافية والاجتماعية بالمشاركة في التفكير الجماعي الحر والمنظم.

وبالمقابل فإن الواجبات الوطنية وحقوق المواطنة والانحياز لصالح الجماهير وتطلعاتها الوحدوية والديمقراطية تفرض على المثقفين العرب كشف نوايا الدعوة الأمريكية للديمقراطية لفضح زيفها ، حتى يقلع مروجوها عن استخدام الديمقراطية أداة وآلية لترتيب الأوضاع الدولية لمآرب بعيدة عن تعزيز قيم الحرية.

إن الإصلاح المطلوب من وجهة نظر أمريكا مشروط بما يجعل منه في الحقيقة عملية أبعد ما تكون عن الإصلاح الحقيقي الذي تحتاج إليه دول المنطقة،وهو وسيلة لتعميق علاقات التبعية والخضوع للهيمنة الأمريكية .

فقد أكدت الولايات المتحدة أن ما يعنيها أولاً وأخيراً هو مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية ،وأمن واستقرار الدولة الصهيونية ،وهي المصالح التي تتعارض جذرياً مع الأهداف القومية والديمقراطية التي تتطلع إليها الجماهير العربية.

إن الديمقراطية التي ينشدها المواطن العربي الذي تخوض أقطاره معركة التنمية والقضاء على التخلف،وتعاني من مفاعيل التجزئة والاحتلال الصهيوني،إنها الديمقراطية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأهداف التنمية والوحدة والتحرير،والتي تتوافق مع الخصائص الثقافية للمجتمعات العربية ودرجة تطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

لقد أصبح للديمقراطية موقع مركزي في الرأي العام العالمي الرسمي والشعبي،بعد أن سقطت مشروعية الأنظمة الفردية والاستبدادية ،ولم يعد الموجود منها قادراً على الاستمرار دون القيام بالإصلاحات الديمقراطية اللازمة.

إن هنالك من يعتقد أن الديمقراطية لن تتحقق عربيا إلا بتدخل القوة الأمريكية لتخليص الشعوب العربية من حكم الطغاة.ولا يخفي أصحاب هذا الاعتقاد مطالبتهم بالتدخل الأمريكي ،واستعدادهم التعامل مع الإدارة الأمريكية في سبيله.

والنتيجة المنطقية لهذا الموقف هو ما نراه من ممارسات القمع والارهاب والابادة والنهب التي تتم كلها تحت شعار إقامة الديمقراطية الموعودة ،وهو ما يتناقض كلياً مع مصلحة الشعوب العربية في ديمقراطية حقيقية يبنيها أبناء وشعوب المنطقة في ظل السيادة والحرية .

إن هذا الموقف الذي يستند إلى دعم التدخل الخارجي مرفوض لأسباب أخلاقية ومعرفية لأنه يصدر عن تواطؤ معلن مع الخارج ضد المصالح الوطنية للشعوب العربية.

أما الموقف الذي يصطنع التعارض بين القومية العربية والديمقراطية ،فهو موقف مضاد للديمقراطية ،وذلك أن تجاهل الهوية القومية والبيئة الثقافية العربية الإسلامية في أي عملية بناء ديمقراطي يعني الحكم عليها سلفاًبالفشل الذريع. وإذا كان من ديمقراطية يمكن أن تتحقق دون أساس قومي وثقافي فهي تلك القشرة البراقة الخارجية الخادعة التي تغلّف أنماطاً مشوهة من التبعية السياسية والاقتصادية .

وهذه الديمقراطية المزعومة هي واقعياً التعبير السياسي والثقافي من الرضوخ للهيمنة الأجنبية ،وتكريس التجزئة والتفكك والتفريط بالأرض والحقوق وطمس الهوية والثقافة.

إن جوهر العلاقة الملتبسة بين القومية والديمقراطية يعود إلى الأداء السياسي الرسمي الذي استغل الشعار القومي للتغطية على الممارسة اللاديمقراطية ،وليس إلى التناقض بين القومية والديمقراطية .

إن القضية القومية ليست مقرونة بالأساس ببعض النظم والأحزاب بل إنها قضية الجماهير العربية .وعلى هذا الأساس فإن الترابط بين القومية والديمقراطية أمر لا غنى عنه.

لقد حسم الفكر القومي نتيجة نقده البنّاء التجارب السياسية القومية،وبات الربط بين القضايا القومية والوطنية والديمقراطية والاجتماعية خياره الأساسي.

ولعل الفكر الديمقراطي مطالب بالتفكير تفكيراً جديا في هذا الخيار إذا كان يريد للديمقراطية العربية أن تقوم حقاً.

إن الناس في الأقطار العربية على اختلاف نظمها السياسية والاقتصادية ،يدفعون ثمناً باهظاً هو ثمن تعثر التنمية الاقتصادية والاجتماعية وثمن غياب الديمقراطية, وهم يدركون أكثر فأكثر ومن خلال المعاناة ،أن غياب الديمقراطية هو أيضاً أحد الأسباب لتعثر التنمية.وأنه في غياب حكم القانون والمؤسسات واستحواذ رموز السلطة على مقدرات البلاد وثرواتها،وتفشي الفساد في مختلف مفاصل الدولة،لاأمل لهم في حياة كريمة يتمتعون فيها بحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ويتخلصون نهائيا من القهر والفقر والتهميش.

إن العدالة الاجتماعية تفقد معناها العميق ،إذا أُقيمت على حساب حرية البشر واحترام حقوقهم .وتفقد الديمقراطية معناها الحقيقي إذا لم تكن ذات مضمون اجتماعي يلبي حاجات الأغلبية من الناس.ومن هنا يصعب الفصل بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ،لأنهما وجهان للمشروع الاصلاح.



تعليقات القراء

ابو محمد الطفيلي
كلام ينم عن فكر عظيم سعادة النائب ...
لك جزيل الشكر
04-08-2013 06:07 PM
بهاء عبيدات
رائع سعادة النائب ابا مؤنس العظيم
قلعة في الفكر و السياسة
04-08-2013 06:09 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات