خنزير عطس في المكسيك!


"هل يمكن لرفيف أجنحة فراشة في نيويورك أن يثير زوبعة في طوكيو؟"، هكذا يسأل الإيطالي أنطونيو تابوكي في عنوان إحدى أبدع قصصه، الإمكانية لم تعد افتراضاً، بل ثبتت بالدليل العملي، فما ان عطس خنزير في المكسيك حتى اهتزت مصر، التي لم تعد تهتز طرباً، بل قلقاً وخوفاً مما لا يخيف، منذ تركت الخوف مما يخيف!
انفلوانزا الخنازير ليست مزحة، لكن الإجراء المصري كان مبالغاً فيه، فأول العلاج الذبح، على الرغم من أن بلد المنشأ للوباء لم تذبح الخنازير. الأقباط رأوا في هذا الحماس العجيب للذبح داخل الحكومة والبرلمان مظهراً من مظاهر الطائفية. وهذا الإحساس ليس بعيداً عن الصواب، لكنه يعكس أيضاً عدم ثقة الإدارة في قدرتها على السيطرة أو متابعة المرض، وخصوصاً أن مصدره الوحيد ليس الخنازير، بل البشر، من السياح والمصريين العائدين، ومن غير المعقول أن يتم إعدام الداخلين إلى مصر، لكي يعيش سكانها آمنين!

معركة لا تعنيهم!

على الرغم من الهلع الإداري أو التحامل، الذي قاد إلى مذبحة الخنازير، لا توجد مظاهر حذر في المجتمع المصري. لم يقل تدخين الشيشة ولم يقطع الناس أرجلهم عن المجمعات التجارية الضخمة أو المطاعم، يتابع الناس معركة الخنازير بانفصال تام، يقرأون أرقام الضحايا من الحلاليف ويتابعون حياتهم باطمئنان، كما لو كانت الحرب الدائرة على أرضهم بين جيشين من الغزاة، لا تستحق المشاركة، بل مجرد صيحات الاستحسان أو الاستهجان العابرة التي تفرضها طبيعة الحكم القائم، لا الغازي الجديد.
رحب المصريون بالغزو العربي بسبب ظلم الرومان، وهتفوا تقدم يا رومل كراهية في الاحتلال الإنكليزي. المعركة الحالية يستلطفها بعض المتدينين شماتة في الخنازير، ويستبشعها بعض الأقباط بسبب عنصرية الذبح، لكن هذا كله بعيد عن الإحساس بالخطر!
تركيز مانشيتات الصحف وبرامج التليفزيون على الوباء، لم ينجح في تحريك خوف المصريين، على حياة لم يعودوا يشعرون بأنها تلك اللقية التي ينبغي أن يحافظوا عليها.

عوالم في تصادم!

في المطار الأمر مختلف؛ فهو بوابة مصر إلى العالم، وبوابة العالم إلى مصر، فيه يلتقي الجمعان، الحذر مع القدرية. كمامات المسافرين الحذرين أثمرت نظيراتها على أفواه وأنوف بعض بائعات السوق الحرة، وبعض الموظفين.
البشر في الكمامات يبدون كائنات من كواكب أخرى تستطلع إمكانية الحياة على الأرض، قبل أن تقرر الإقامة الدائمة أو الفرار. البقعة البيضاء على الوجه توحد السياح الأجانب مع المصريين، للوهلة الأولى يغزوك هذا الوهم بأن أمة الكمامات أمة واحدة، لا فضل فيها لأشقر على سمراء، ومع الاقتراب ينكشف الفرق؛ فالكمامة الوافدة صلفة، متوجسة في ثباتها، تعتبر النفس القادم من الآخر سماً قاتلاً. الآخر مريض ولا وقت لإثبات العكس. الكمامة المصرية متواضعة، خجولة، فلا تسأل بائعة عن سعر سلعة، أو تستعلم من موظف عن رحلة، حتى يبادر بخلع كمامته لكي يجيبك، وكأنه يريد أن يقول لك: أثق بك، ولا أتهمك بالخنزرة!

الجارة المكممة

هل كان ما رواه ماركيز عن جارته في الطائرة حقيقة؟
لا أحد يعرف، ولو سألناه فإنه على درجة من المكر تجعله يجيب عن كل سؤال بسؤال. وهو قد اخترع الحكاية من فرط غيرته من كاواباتا. قال إنه في إحدى الرحلات رأى خلاسية مكتملة الجمال في صالة وزن الأمتعة، وتمنى أن تكون جارته في الرحلة، وعندما استقر في مقعده بالطائرة فوجىء بأمنيته تتحقق، لكنها للأسف تناولت منوماً، ولم تبادله حرفاً أو نظرة على مدى رحلة تستغرق سبع ساعات.
ما جرى معي كان حقيقة، ولديّ عليه شهود، من مضيفات الطائرة المصرية. جلست في مقعدي، وكادت أبواب الطائرة تغلق. لم أتمن خلاسية ماركيز لتجلس بجانبي، تمنيت ألا يكون لي جار أو جارة لأزرع فوضاي على المقعد المجاور، لكنها أقبلت!
السمراء النحيفة الطويلة المكممة انتظرت للحظة الأخيرة لكي تقلل من وقت التجاور معي إلى أقل حد ممكن. أخذت أقنع نفسي بأنها لم تقصدني أنا تحديداً، بل تقصد أي جار. هي ضد التقارب مع الغريب، بوصفه مصدراً محتملاً للعدوى.
في العادة لا يتوقع أحدنا أن يلتقي بلص أو قاتل خطر على الطائرة، وتقتصر تهديدات جار السماء على بعض المماحكات الجنسية، أو الشخير أثناء النوم، أو بعض القباحة في طريقة الأكل، أو كثرة ارتياد المرحاض، أما أن يكون الجار مصدراً محتملاً للموت، فحالة لا تتكرر كثيراً. وهي حالة جارتي السمراء، التي رفضت بعيون مذعورة وجبة الضيافة، وأخذت تنظر إليّ بينما كنت أتناول وجبتي نظرة كولمبوس إلى هندي أحمر.
لكنني عرفت كيـــــف أتسامـــح، وإذ أكتب هذه السطور فإنني لا أتذكر من جارتي السمراء ســـوى كمامة كبيرة بحجم الخوف.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات