حجارة الشطرنج والتخلف العربي


قررتُ وأنا أعدُّ العُدَّةَ لكتابة هذا المقال، أن لا أخوض كثيرا بالتفصيلات.. بل سأركز على بعض الخطوط العريضة التي قد يعرفها الكثيرون من ساستنا ومثقفينا .. ومع ذلك فلن يكون هذا المقال درسا من الدروس والعبر، وإنما سيكون من نتاج حرصي على أن أبرز للقارئ العربي والمثقف والسياسي الدور الرئيسي، الذي اتخذه معظم القادة في العالم العربي دون استثناء. والذي كان سببا رئيسا لنكسات ونكبات توالت على منطقتنا العربية على مدار ستة عقود ، أفرزت العديد من المعارك غير المتكافئة بين العرب وأعدائها ، وأنواع شتى من الكرِّ والفرِّ والنزاعات ...
فالمتتبع لواقعنا العربي المؤلم.. والمطلع على الظروف الصعبة التي عاصرتها الشعوب منذ أكثر من ستة عقود مضت ، وتحديدا منذ أن بدأت أحداث النكبة الفلسطينية تطفو على السطح ، ومحاولة دول الغرب وعلى رأسها الاستعمار البريطاني البغيض .. التمهيد من أجل تكريس الاحتلال الصهيوني على أجزاء غالية من أرض فلسطين، قد يصاب كل من يتتبع هذه المراحل المتعاقبة.. الواحدة تلو الأخرى، بصعقة قد لا يفيق منها أبدا..
فمنذ أن حطت أقدام بني صهيون ، المكرهين على مغادرة الدول التي كانت تحتضنهم ، حين وصلوا إلى فلسطين كمهاجرين إليها من أجل الاحتلال بناء على ما تمخض عنه وعد بلفور المشئوم ..والمحتل الصهيوني لأرض فلسطين يسعى جاهدا وبتمهيد من الاحتلال البريطاني الذي كان يجثم آنذاك على صدر بعض الدول العربية في المنطقة كمحتل ، ومنها الأردن ، وفلسطين التي كانت قد وضعت تحت الانتداب البريطاني البغيض ، في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، بتكريس الاحتلال الصهيوني للأرض المقدسة ، فبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها ، بانهزام تركيا أمام الدول المتحالفة ضدها ، منذ ذلك الحين ، راحت بريطانيا تحصد المكاسب في المنطقة ، وخانت اتفاقا كانت قد أبرمته مع الشريف الحسين بن علي (رحمه الله) ، ظلت المنطقة العربية برمتها تواجه الويلات تلو الويلات ، والتحديات الكبيرة ، نظير وقوف بعض رجالاتها من أبناء العروبة في وجه الاحتلال الصهيوني ، وهبوا للدفاع عن عروبة فلسطين وحريتها واستقلالها ..وقدموا من أجل ذلك التضحيات تلو التضحيات وضحى الكثير من شباب العرب والمسلمين بالمهج والأرواح ، ومنهم من فدى تراب فلسطين العزيزة بالمال والأهل والولد ، وضرَّجوا ترابها بدمائهم الزكية .
وبين هلالين ( فإن من المؤسف اليوم ، أن لا نرى أي أثر يشير إلى بطولات وأمجاد أولئك الشهداء الذين سقطوا على أرض فلسطين الحبيبة لا من قريب ولا من بعيد ) وإن جاز للأمة أن تتغنى بتاريخها وأمجادها ، فعليها أن لا تسقط من حساباتها أبدا تلك السير العطرة ، التي تمجد أولئك الرجال الأبطال ..وتمجد ذكراهم العزيزة ..
لقد كان من البديهي أن تنشأ في العالم العربي حركات وطنية وقومية ودينية ، أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن المقدسات وعن قضايا الأمة بالمهج والأرواح .. فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ..
نعم .. كانت الحركات الوطنية في بادئ الأمر تتشكل نواتها من خيرة الرجال، ومن النخب الشجاعة ، التي تقدم الأرواح والمهج ، ولا تنتظر أجرا من أحد ، فقد كانت تعمل جاهدة فقط من أجل تحرير الأرض والإنسان ، ولم تبخل بتقديم التضحيات الجلَّى في سبيل رفد هذا الواجب القومي والوطني والديني المقدس بكل ما تملك من مقومات ..
ونتيجة قيام بعض أولئك الذين قادوا عمليات التحرير على شكل تنظيمات سياسية , لجأت في أغلب الأحيان إلى عمليات انتقامية كثيرة ضد المصالح الإسرائيلية والغربية المؤيدة للاحتلال . وسرعان ما تحولت هذه التنظيمات بأنشطتها أمام وقع الضربات الموجعة التي تلقتها من إسرائيل وأمريكا على حد سواء ، إلى تنظيمات إرهابية ، بعد أن لجأ الكثير من العملاء إلى تغيير مسار تلك التنظيمات وتوجيهها إلى حيث ما يمكن أن تقدم خدماتها الجليلة إلى ما يخدم مصلحة العدو الصهيوني .
وكم أتمنى على كافة التنظيمات السياسية في العالم الإسلامي أن تتوجه هي الأخرى بصدق نحو الإصلاح وأن لا تتعجل بأحكامها على نفسها حيثما تشعر بشيء من القوة أو حينما تمتلك السلاح .. وعليهم أن يتذكروا ويتعظوا مما حصل لأحمد شاه مسعود ، الذي سارع بمجرد وصوله إلى سدة الحكم وانتهاء الثورة في أفغانستان ، حيث عاجل العالم بإعلان مبادئ الثورة الأفغانية ، بإعلانه تطبيق تعاليم الشريعة الإسلامية بكل معانيها ، حيث أثار مما أثار حفيظة الأفغانيين المبادرة بفرض الحجاب على طالبات الجامعات الأفغانية ، وقد أعمته نشوة النصر ، وأخذ يلقي بتصريحاته النيرانية يمنة ويسرة ، ولم تغفل دول الشر وخصوم الإسلام عن مجابهة تلك المبادئ ، والوقوف بوجه ذلك التيار الإسلامي المتطرف ، وكانت محصلته أن قتل أحمد شاه مسعود وهو يلقي كلمته في محفل عام ، ليزف بشرى الانتصار إلى مؤيديه ومعاونيه في كل أرجاء الدنيا .. نعم قتل بعبوة ناسفة زرعت على منصته التي كان يقف وراءها وهو يلقي بكلمته .
وكنا نعلم يومئذ .. كيف تنقلب أمريكا على حلفائها وأزلامها وربائبها ، بمجرد أن تنتهي مصالحها معهم .. وما زلنا ومعنا الكثيرون نذكر كيف سقط الحليف الأكبر لأمريكا في آسيا قبل أكثر من ثلاثة قرون مضت ، وهو شاهنشاه إيران محمد رضا بهلوي .. فحينما تأججت نيران الثورة الإيرانية على أرض إيران ، ضد ملك الملوك .. وإمبراطور أمريكا المزروع في أكبر دول المنطقة عدة وعتادا وهي إيران .. وأوشك الامبراطور على السقوط ، ذهب وزير خارجية أمريكا آنذاك وأظنه المستر (هنري كيسنجر) بالرد على الصحفيين حينما سئل عن تداعيات سقوط الشاه بقوله : نحن لا يهمنا سقوط الشاه .. لكن ما يهمنا هو كيف يمكن لأمريكا أن تستفيد من سقوط الشاه .
أما في عالمنا العربي فقد لجأ الحكام العرب ، ومن أجل العروش والكراسي والاستئثار بالحكم ، ومن أجل أن لا يثيروا سخط أمريكا أو إسرائيل .. فأعلنوا بطريقة أو بأخرى الاستسلام المبكر والانبطاح أمام رغبة الاستعمار الغربي ، وأمام قوة وسطوة إسرائيل التي أثبتت وجودها لدى من يناصرها من دول الغرب بأنها الدولة الوحيدة الجديرة بالحياة على أرض ليست بأرضها ، كما أثبتت للدنيا كلها بأنها تملك من مقومات الدولة ما لم يملكها أحد غيرها في العالم العربي كله ، وسخرت من أجل ترسيخ تلك القناعة كل الإمكانيات المتوفرة ، واستفادت كثيرا من مساندة الدول التي اضطرت إلى تهجير اليهود من أراضيها إلى فلسطين للخلاص من شرهم ، كما أثبتت بفضل الدعاية التي لجأت إليها بأسلوب قذر ، بأن العرب هم جماعة همجيون مهزومون من الداخل ، لا يفكرون سوى بالرفاهية والملذات والعروش والكراسي والاستئثار بالحكم .. بل وأبعد من ذلك فقد وصفتهم بالعبثيين والعشوائيين ، والباحثين عن الملذات واللهو في حانات الغرب ودكاكينها التي أصبحت فيما بعد ، تُعد خصيصا من أجل تلبية رغبات بعض الزعماء العرب حيث أصحوا مع الزمن هم الرواد الوحيدون لتلك الأماكن ، بعد أن تجردوا من أخلاقهم ، وتنكبوا لكل القيم الإنسانية والدينية ، وأداروا ظهورهم للمسئولية التي كانت أمانة في أعناقهم .
وأما الثروات العربية الهائلة، فلم تكن في يوم من الأيام سوى وبالا على الشعوب العربية نفسها، بل وأسهمت في زيادة فقر الفقراء من الشعوب، وزادت من شره الحكام والأغنياء والمتسلقين والوصوليين ، وبهذا فقد نمَّتْ عوامل الكراهية ما بين المواطنين وحكامهم .. بل وأكثر من ذلك فقد ساعدت تلك الثروات على تهيئة كل الظروف كي تقول دول الغرب كلمتها بكل وقاحة وجرأة ، وأخذ ساستهم يكيلون بمكيالين مختلفين في آن واحد ، مكيال للعرب ، ومكيال آخر لإسرائيل.. وباتوا في ظل تلك المبررات ، يساندون دولة إسرائيل جهارا نهارا وبكل ما لديهم من قوة على حساب كرامة العرب واستقلالهم وحريتهم، ولم يعودوا ليقيموا أي وزن لا لحكام العرب، ولا لشعوبهم، فكانت المتغيرات كلها في المنطقة تصب بمصلحة العدو الصهيوني .
هذا الاستسلام المبكر من قبل الحكام العرب، والذين أثبتوا بأنهم من الخنوع باتوا في صفوف المعادين للعروبة وأبناء العروبة أينما كانوا.. كلّ هذا جعل من العالم العربي أضحوكة ومثار استهزاء في كل الدنيا.. والسبب الرئيس .. هم الحكام العرب أنفسهم الباحثون عن الملذات واللهو والعروش والحكم.. والذين لم يفكروا يوما بتطبيق أي نوع من أنواع العدالة الاجتماعية التي ينادي بها الإسلام.. وفوق هذا وذاك فهم يدعون الإسلام زورا وبهتانا ...
وإسرائيل التي استطاعت أن تثبت لأمريكا وبريطانيا من قبل بأنها الدولة الوحيدة التي تستحق أن يكون لها كيان ودولة مستقلة على أراض ليست بأرضها ، وألزمت الأمم المتحدة مرغمة بالاعتراف بكيان ودولة تقومان على الباطل وعلى الاحتلال ، ما لم يكن مألوفا من قبل في أروقة الأمم المتحدة ، فالأمم المتحدة تعلم جيدا بأنه لا يجوز أبدا لأي دولة باحتلال دولة أخرى وأن تقيم كيانها على أنقاض تلك الدولة ، وأكثر من ذلك .. وتفريغ أرضها من شعبها الأصلي ليقوم شعب جاء ليحتل على أنقاض شعب مهزوم مغلوب على أمره ...
لقد عصفت في العالم العربي عدة نكسات موجعة ، كانت سببا رئيسيا في استسلام الشعوب أيضا ، وتداعت الهمم في نفوس الرجال ، سواء الجهاديون أو الثوار ، الذين كانوا قد ثاروا على البغي والاحتلال ، والأنكى من ذلك فقد راحت الأنظمة العربية وعن طريق عملائهم بمحاربتهم وتضييق الخناق عليهم ، وربما تعمد العرب في الفترة الأخيرة إلى تسليم الكثير من الجهاديين إلى معتقل (جوانتينموا ) في كوبا ، ذلك المعتقل الذي لاقى فيه الجهاديون أنواع وصور شتى من التعذيب والتنكيل ، تنكرت لها منظمات حقوق الإنسان في الغرب في حين لم ترتجف شعرة في أجساد أولئك الحكام ، والسبب أن أمريكا وإسرائيل قد صورت للحكام مدى المخاطر التي قد يشكلها أولئك الرجال نتيجة الروح الجهادية التي يعتنقونها على عروشهم .
أما اليوم .. وقد أدركت الشعوب كلها مخاطر حكامهم ، وهم الذين مازالوا يشكلون امتدادا قويا لذيول الاستعمار في عالمنا العربي ، وهم الذين أخذوا على عاتقهم القيام بدور كبير من أجل الحفاظ على أمن إسرائيل وحماية كيانها وحدودها ، بشتى الوسائل ، وتعهد أولئك الحكام ، أن يخصصوا الشيء الكثير من ميزانياتهم من أجل هذا الهدف المقدس بالنسبة لهم .
لقد مرت الشعوب العربية بظروف شتى من صور الاستعمار والاحتلال على أرضها .. ولم يبق لهم من أجل أن يتمتعوا بشيء من الرفاهية والاستقلال والحرية ، إلا أن يتخلصوا من حكامهم بشتى الوسائل والطرق ، فبطون الأمهات الأصيلات ما زالت تأتي بالنجباء والمخلصين الذين قد يتولون قياد الأمة نحو شاطئ الحرية والأمن والسلام والتقدم والازدهار .
وبعد أن تنتهي من بقايا التخلف والاستعمار في أرضها ، عليها أن تبدأ مع الغرب بحوارات جديدة على مبدأ : إن لم يكن لنا كيانا وحرية واستقلالية على أرضنا فلا نريد أن نكون ، ولم يعد لشعوبنا أن ترضى بالخنوع والذل والقيود وهي تعيش على ترابها الطهور ..
وعلينا أن نعلم بأن لغة السلاح والحروب والاغتيالات وعمليات الإرهاب لم تعد مجدية ، وعلينا أن نتعلم من دروس الماضي ، ونتعظ بأخطاء من سبقونا ، والذين راحوا ضحية المؤامرات والظلم على أيدي حكامهم وقادتهم وعملاء الاستعمار الذين ما زالوا يربضون على أرضنا وبين ظهرانينا ..
إن الحروب اليوم تختلف عما هي عليه بالأمس ، وليعلم الجميع بأن لا القنبلة ولا البندقية ولا أي سلاح فردي ، يمكنه اليوم تحرير أرض ولا محاربة جيش قوي ، لديه من الإمكانية ما أن يجعله يحارب في أي بقعة في الدنيا وهو على بعد عشرات الآلاف من الأميال . وأصبحنا نعلم بأن القنبلة يمكن أن تقتل من الأبرياء العشرات ، لكن صواريخهم ودباباتهم وقذائفهم أصبح بإمكانها قتل الآلاف بل وعشرات الآلاف ، بل وتدمير مدن بكاملها مقابل مقتل عدد من أفرادها ...
نعم .. إن الحوار مع الغرب اليوم قد يبدو مجازفة ، لا يمكن أن نضمن لها النجاح ، ولكن علينا أن نسعى وبعد أن تتوحد جهود العرب من المحيط إلى الخليج ، وبعد أن تطهر الأمة من العملاء والخونة والانهزاميين ومطايا الاستعمار ، وبعد أن تصل الأيدي الطاهرة المخلصة إلى مواقع القيادة .. هناك فقط .. علينا أن نبدأ بالحوار الجاد والبناء ، فربما مع الإصرار على مطالبنا العادلة أن نصل إلى مبتغانا ، فعلينا إذن أن لا نلجأ للسلاح ، بتلك الصور البشعة التي كرَّهَتْ العالم بنا وبقضايانا ، وأصبحنا بنظرهم إرهابيين وقتلة ، بل وسفلة لئام ..
وعلينا أن نتخذ من أسلوب المقاومة السلبية التي انتهجها ذلك الوطني الرائع .. (المهاتما غاندي) إبان الاستعمار البريطاني للهند ، منهجا وأسلوب حياة ، وعلينا أن نكون حريصين أكثر من عبث العملاء وتدخلاتهم ، والذين سيسعون دائما لإحباط هذه الرغبات وتخريبها في وقت لم يعد بخافٍ علينا ، وعلينا أن نستمد توجهنا هذا من تجاربنا السابقة ، ومن مسيرة أبطالنا ، ومن تلك الحروب التي دمرت الكثير من مقوماتنا وحضاراتنا واقتصادنا ، وقتلت كل آمالنا بمستقبل مشرق قريب ..
والله من وراء القصد ....



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات