في الذكرى العاشرة لاحتلال بغداد


ثمة أيام في حياة امتنا والعالم لا تنسى ، وتبقى ذكراها محزنة وسوداء، ولعل سقوط بغداد عام 2003 هو احد هذه الأيام التي لا تزال تلقي بظلالها الكئيبة على هذا الزمن العربي الرديء.
إن سقوط عاصمة الرشيد، عاصمة الحضارة والفكر والثقافة والصمود، كان بمثابة استباحة للوجدان العربي وكرامة الأمة، ولعاصمة الحضارة العربية والإنسانية، بفعل الحرب العدوانية التي شنتها عصابة المحافظين الجدد المتصهينين في واشنطن، والتي اعتقدوا أنها ستكون بداية سيطرتهم على العالم، وتنفيذ مشروعهم الإمبراطوري.
لقد كان يوم 9 نيسان أحلك الأيام وأكثرها حزنا وألما، عندما اخترقت الدبابات الأمريكية قلب بغداد، لتقع بغداد تحت احتلال مغول العصر، تحت سمع وبصر حكام العرب، وبموافقة اغلبهم ومشاركة أنظمتهم التابعة فيه بطرق مباشرة وغير مباشرة.
في 19 آذار 2003 كشفت الولايات المتحدة الأمريكية النقاب عن وجهها الحقيقي المتمثل في أبشع صورة لها عرفها التاريخ، وذلك من خلال غزو العراق، والقيام بقتل آلاف العراقيين، وتشريد الملايين منهم والقضاء على البنية التحتية، وتفكيك مؤسسات الدولة، وإشعال الفتنة الطائفية، واغتيال مئات الأساتذة والعلماء وضباط الجيش والطيارين.
ولقد أثبتت الأيام والأدلة أن هذه الحرب هي من ضمن إستراتيجية أمريكية كانت قد وضعت قبل غزو العراق للكويت، فبعد انتهاء الحرب الباردة لم تعد القوة العسكرية هي المعيار الرئيسي لتحديد من هي القوة الكبرى في العالم، فقد بدأ العامل الاقتصادي يأخذ أهمية متزايدة ، وبنظرة مستقبلية رأت الولايات المتحدة انه بازدياد أهمية العامل الاقتصادي لن تستطيع أن تكون قوة كبرى وحيدة بعد اليوم ، أمام الاتحاد الأوروبي والصين واليابان والهند، ولذلك كانت أمريكا بحاجة إلى ورقة اقتصادية تتعامل بها مع الغرب ومع الشرق، ومن هنا جاءت فكرة السيطرة على النفط لاستعماله كورقة ضغط في علاقة أمريكا مع القوى الاقتصادية الرئيسة الأخرى، ومن خلاله تستطيع أن تتحكم في توريده وأسعاره، وبالتالي تكون هذه الدول مرتهنة لها، خصوصا وان العراق ثاني اكبر احتياطي في العالم،.
ومن ناحية ثانية فان بروز دور العراق في المجال العربي القومي بعد حربه مع إيران، وثقلها في الدفاع عن القضايا العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، جعل من واشنطن والغرب والكيان الصهيوني يشعرون بان النظام العراقي أصبح يشكل خطرا على أمنها وامن الكيان الصهيوني، ومن ثم يجب محاولة تدمير قوته العسكرية والاقتصادية، ونفوذه السياسي في محيطه العربي تمهيدا لفرض تسوية على الشعب الفلسطيني بشروط صهيونية أمريكية، وعلى هذا الأساس بدأ الكلام عام 1990 وقبل دخول العراق إلى الكويت عن امتلاك العراق لرابع اكبر جيش في العالم، والمدفع العملاق، وعن برنامج لأسلحة الدمار الشامل، وكل ذلك كان تمهيدا لإيجاد ذرائع لضرب العراق، وفي هذا الوقت كان العراق بحاجة لتسديد ديونه، ولإعادة اعمار البلاد بعد خروجه للتو من حربه مع إيران، وكانت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية تضغط على العراق لتسديد ديونه، وفي هذا الوقت قامت الكويت والإمارات بزيادة إنتاج النفط مما أدى إلى انخفاض حاد لأسعاره، وأدى بالتالي إلى انخفاض إيراد العراق من نفطه المصدر.
ويؤكد محمد حسنين هيكل في كتابه حرب الخليج أن هناك مراسلات جرت بين المسؤولين في الكويت ووكالة المخابرات الأمريكية حول الضغط الاقتصادي على العراق، وعلى هذا الأساس قامت الحكومة العراقية باتخاذ قرارها الخاطئ بغزو الكويت ليقع في المصيدة.
استطاعت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة من تحرير الكويت وتدمير العراق، ثم إخضاعه لنظام التفتيش والعقوبات الاقتصادية، وإعلان منطقة حظر جوي في الشمال والجنوب، وادعت الولايات المتحدة أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل دون أن تقدم دليلا على ذلك.
لقد كان الكيان الصهيوني من أكثر المستفيدين من الاحتلال الأمريكي للعراق، فتلك الحرب شنت لمصلحة هذا الكيان الذي ظل لعقود من الزمن يملك رؤية إستراتيجية واضحة المعالم حيال العراق ودوره المحوري في الصراع العربي الصهيوني، نظرا لإمكاناته الاقتصادية والعسكرية الكبيرة، وتوجهاته القومية.
لقد كان العراق سباقا منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي للمشاركة في كل الجهود العربية الرامية لمحاصرة وتدمير إسرائيل، وبقي من اكسر الدول العربية التي تشكل تهديدا حقيقيا للوجود الصهيوني، إذ رفض العراق توقيع هدنة عسكرية مع الدولة العبرية عام 1948 حتى الآن، كما قاوم الضغوط والابتزازات السياسية لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل مقابل رضا أمريكي وغربي بدور عراقي في المنطقة.
كما كان هذا الاحتلال جزءا من إستراتيجية أمريكية لإعادة هيكلة الشرق الأوسط الكبير، وبما يسمح بإدخال أقطاب جديدة في مقدمتها إسرائيل وتركيا، لضرب النظام الإقليمي العربي وتفكيكه وإفقاده صبغته القومية.
إن ما احصل من تدمير لمؤسسات الدولة العراقية من حل الجيش وأجهزة الأمن، وتدمير البنية التحتية وسرقة الآثار، وأعمال التخريب الشاملة، كان متوافقا تماما مع الرؤية الإستراتيجية لإسرائيل وحلفائها من التيار المسيحي الصهيوني المحافظ في البيت الأبيض.
لقد اضعف الاحتلال الأمريكي للعراق قدرة سوريا وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين على المناورة، وسمح بزيادة الضغوط السياسية والعسكرية على سوريا، وقد تمثل ذلك في الانسحاب السوري من لبنان، واتهام سوريا باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، فضلا عن الخروقات الجوية المستمرة، وقصف بعض المناطق الإستراتيجية السورية من قبل الطائرات الإسرائيلية في عامي 2005، 2007، 2013، فضلا عن قيام إسرائيل بمعونة أمريكية في تموز 2006 بشن حرب استباقية على حزب الله بهدف القضاء على مقاومته المسلحة في لبنان، وإنهاء الدعم السوري له.
وختاما إذا كان يوم احتلال العراق من أهم الأحداث التي مر بها هذه البلد في تاريخه الحديث، فان يوم انسحاب القوات الأمريكية تحت جنح الظلام يعد من أهم الأحداث في تاريخ الولايات المتحدة خلال تزعمها القطبية الأحادية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث تمكنت المقاومة العراقية من إرغام اكبر قوة عسكرية واقتصادية وإعلامية في العالم على الهروب من بلدهم، بعد أن تكبدت خسائر فادحة، وخسرت أهم مرتكزاتها الاقتصادية، وقبل ذلك انهارت هيبة الإمبراطورية الكبرى في العالم على ارض العراق.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات