مشاهد في المسؤولية


في كل صباح من بداية كل أسبوع ، يتم دعوتنا إلى لقاء تشاوري مع الرئيس الإداري الأعلى في التسلسل الوظيفي ؛ فيتوافد كل مسؤول إلى هذا الاجتماع الصباحي منتظرين حضور رئيس الاجتماع ، ولمقتضيات المسؤولية وما يرافقها من طقوس ؛ فان الرئيس الإداري اعتاد أن يأتي متأخرا عن الموعد المحدد للاجتماع ، وعند دخوله قاعة الاجتماع يبدأ الدرس الأول في الوقوف والجلوس احتراما لشخصية الرئيس الإداري ولموقع مسؤوليته في آن واحد .

وللحظات سريعة سَمحت لنفسي أن اقطع الاتصال مع حيثيات ومداولات ذلك الاجتماع؛وان كان الجسد حاضرا ولكن العقل كان غائبا، فبدأتُ بمحاورة نفسي والتوسع في أحلامي و الاستغراق في التحليق نحو فلك المسؤولية، فبدأ الحوار؛ هل اعتذر عن قبول المنصب؟ رغم أنني أحب العمل واحرص عليه ولكن المسؤولية شيء آخر ، فقبلتُ المنصب وما يحمل من جماليات ؛ وعندها سَقطتْ بين يدي نظرات التقدير والحسد والغيرة ، وعبارات الإشادة وقبلات التهنئة، وتوزيع الحلوى التي ظهرت فجأة ؛ من أين ومن أحضرها ؛لا أعلم .

في صباح اليوم التالي كنت أواجه اكبر تحد في حياتي وهم زملائي الذين كنت أجالسهم كل يوم نتجاذب أطراف الحديث ، ونتشاغل عن الناس بمطالعة الصحف والحديث عن أخبار المجتمع ؛ نفس هؤلاء الزملاء استقبلوني بوجه آخر من الجدية والهيبة وبلقب جديد يليق بالمسؤولية ، فلم يعد احد يناديني بكنيتي ولم يعد احد يتذكر اسمي ، فقد طرأت ألقاب جديدة ( عطوفة المدير، سعادة الرئيس ، سيدي المدير ). وأصبحت شخصا آخر، لا أُطيق أن يناديني احد دون أن يكون اسمي مصحوبا باللقب ، وما دمت مديرا فأنا من يأمر وينهي وعلى الباقين التنفيذ .


عندها علمت أن ضرورات " الكرسي" وآه من الكرسي، تمنح صاحبه إحساس آخر، فنبرات الصوت أصابها نوع من التغيير ، وطوال سنوات العمل لم اسمع أحدا يمتدح طريقة ارتدائي للملابس، ولا أسلوبي في إدارة الحوار ،ولا عبقرية الأفكار التي أعرضها ؛ ولكن في أسبوع واحد عرفت كل ذلك ؛ فأصبحت الأكثر عقلا والأوسع فكرا ، والأجمل مظهرا والأعلى مكانة ، والأهم في كل مكان وفي أي مناسبة .

هذه هي فسيفسائية المسؤولية لا نعرف من أين تبدأ ومن أين تنتهي ، فهي تسلب العقول وتلجم لسان المسؤول وتحجم قلمه عن اتخاذ أي قرار عدول ؛ وذلك من خلال تدفق كلمات الإعجاب والإطراء اللامعقول من قافلة المجاملين تباعا دون توقف وما يفوق الوصف ويتجاوز حد المقبول ، في هذه اللحظة تَدخل رئيس الاجتماع ؛ فأيقظني من حلمي وأوقف شريط خيالي وأحالني إلى مقعدي بجسدي وعقلي ، عندها خَلصت بقناعة من يمتطي موقعا وظيفيا دون مراعاة لشروط الاستحقاق والجدارة والكفاءة ؛ فمن السهولة بمكان مخالفة القوانين والأنظمة والإضرار بالمصلحة العامة ، ولهذا فان مشاهد المسؤولية التي مررت بها في حلمي ما هي إلا مرآة تعكس جزءا من واقعنا الذي نعيشه .

Malek_kh71@yahoo.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات