من ينقذ مسلمي جورجيا من ساكاشفيلي وعصابته


لو عدنا قليلاً للوراء و قمنا بتذكر الوضع السياسي الداخلي في جورجيا في الفترة التي شهدت فيها ما يسمى بالثورة البرتقالية في عام 2003، عندها قام الرئيس المستقبلي لجورجيا ميخائيل ساكاشفيلي مع مجموعة من مؤيديه باقتحام مبنى البرلمان،و التي كانت تبشر ببداية عهد جديد في تاريخ البلاد، و لكنه للاسف لم يتعلم من اخطاء سلفه, ففي عام 2012 خسر حزبه الانتخابات البرلمانية و خسر معها قاعدته الانتخابية التي تآكلت مع مرور الوقت بسبب التخبط السياسي و الإداري الذي رافق حكمه لجورجيا، فكان طول هذه الفترة يأمل و يعمل في أن تصبح هذه الجمهورية القوقازية الصغيرة مركزاً لتنمية الديمقراطية في المنطقة ، وتكون قادرة على جعل جيرانها أقرب إلى أوروبا من روسيا .ولكن خسارة ساكشفيلي ممثلة بحزبه " الحركة الوطنية المتحدة" الانتخابات الأخيرة و صعود قوة سياسية جديدة في جورجيا كشفت عن العديد من المشاكل ،و التي ببساطة قد تم تجاهلها من قبل ساكاشفيلي و الدائرة المقربة منه .فالاوضاع السياسية في جورجيا الان تقوم على المواجهة المباشرة بين النظام السياسي القديم و المتمثلة بعدة أشخاص ( ساكاشفيلي، بوكيريا، أوجولافا) والنظام الجديد المتمثل برئيس الحكومة المنتخب إيفانشيفيلي مهندس عملية إرجاع العلاقات الجورجية الروسية إلى طبيعتها "و الذي حقق ثروته التي تعد بالمليارات في موسكو" فلم يأخذ على عاتقه إرجاع العلاقات الجورجية الروسية فحسب بل العلاقات الجورجية الداخلية أيضاً.
فسياسة ساكاشفيلي و فريقه أدت إلى تفاقم صعوبة الوضع في الحياة الدينية في البلاد. فمنذ العصور القديمة، و الطوائف الدينية على اختلافها من مسيحيين و مسلمين و يهود كانوا يعيشون جنباً إلى جنب وفق علاقات سادها التسامح و الاحترام.و لكن ساكاشفيلي قرر بان ارجاع تجربة الهيمنة المسيحية التي سادت في القرون الوسطى و المدعومة ببعض الأفكار القومية ستمكنه من القضاء على ما يسمى "مشكلة التمدد الإسلامي "و ستمكنه بمراقبة أفضل للطوائف الدينية المختلفة.فكان هدفه الاول ايقاف التمدد الاسلامي في جورجيا بشتى الطرق و منع حدوث التجربة الالبانية على ارضه .
مع حرصه على عدم لفت انظار العالم لمخططه ,فسعى دوماً على اظهار جورجيا للعالم بوجه اخر "جورجيا الديمقراطية و المتسامحة" التسامح الذي يتلاشى عند اول اصطدام بالواقع ، فعلى سبيل المثال، عندما طالب مسلمي مقاطعة ادجاريا اعادة بناء مسجد السلطان عزيز في مقاطعتهم "مقاطعة ادجاريا تقع في جنوب غرب جورجيا على البحر الأسود".
و التي قوبلت بالرفض القاطع من جهة ساكاشفيلي و فريقه الحاكم ،مبررين ذلك بان السلطان عزيز هو القائد الاكثر وحشية من بين القادة الاتراك الذين غزو جورجيا، وبناء مسجد بإسمه هي محاولة لتخليد ذكرى الإمبراطورية العثمانية الغازية.
و بخط عمل موازي تقوم الجمعيات و المؤسسات الاهلية و الخاضعة اصلاً لسيطرة السلطات الجورجية ، بعقد مؤتمرات و حوارات تحث فيها مسلمي جورجيا على إقامة شعائر صلواتهم في بيوتهم و في هدوء تام ،و من دون المساس بمشاعر الآخرين من الديانات الاخرى و خصوصاً المسيحيين منهم ، ففي آذار/مارس 2011، و في وسط مدينة باتومي عاصمة اقليم ادجاريا خرجت للشوارع احتجاجات حاشدة ضد بناء المساجد في الأراضي الجورجية و ضد رفع الأذان بشكل تام لما يسببه من إزعاج للآخرين .وكان أول من بدأ بتحشيد الشارع ضد إعادة إعمار مسجد السلطان عزيز هي الكنيسة الأرثوذكسية الجورجية. ففي تصريح لاحق لراعي الكنيسة الجورجية " تيا غوغوتشفيلي" قال فيه :لو سمحنا بإعادة اعمار مسجد السلطان عزيز في جورجيا سيكون من المنطقي بناء نصب تذكاري للنازيين في إسرائيل." و أعتقد أن للقارئ وحده حق استخلاص نتائج هكذا تصريحات.
و هنا يكمن الخطر, فبعد أقل من عام و في منطقة "لانتشخوستكم" الجورجية و بالتحديد في قرية "نيجفازيني" وقعت اشتباكات عنيفة بين المسيحيين والمسلمين الجورجيين. ذكرتني بالفتنة الطائفية التي وقعت في مصر بعد الثورة، و التي أدت إلى وقوع عدد كبير من الضحايا من جميع الاطراف. فحقيقة الاشتباكات التي وقعت في الثاني من نوفمبر عام 2012 في قرية "نيجفازيني" الجورجية, سببها بأن السكان المسيحيين منعوا جيرانهم المسلمين من الوصول للمسجد و إقامة شعائر صلاة الجمعة.داعينهم لإقامة صلاتهم في بيوتهم و ليس في المسجد,مهديدنهم بإستخدام العنف لإرغامهم على ذلك.ناسيين او تناسوا بأنه في جورجيا يوجد الكثير من المسلمين و الذين لا يفصلون انفسهم عن الجزء التاريخي من جورجيا,كما قالت احدى ساكنات القرية "إيامزه كاخيدزه" ، معربتاً عن أملها بأن هذه الاحداث لن تتكرر مرة أخرى، وقالت "آمل أن هؤلاء الناس الذين يتعاملون معنا كغرباء و ليس كجورجيين,ان يعلموا بأننا مواطنون جورجيون نحب جورجيا و لكننا مسلمون".
فنحن لا نستطيع تقييم هذا الأمر كحدث عابر و معزول عن الواقع, ففي 31 ديسمبر من نفس العام .و في مدينة "تسينتسكارو" في اقليم "ادجاريا" ،و في حادثة مماثلة حاول السكان المحليين بالقوة منع جيرانهم المسلمين من الوصول لبيت كانوا قد اشتروه من مالهم الخاص و جعله كمسجد لإقامة الصلوات فيه نظراً لرفض السلطات المحلية إعطائهم التراخيص اللازمة لبناء مسجد في المدينة.
في حينها اصدرت منظمة غير حكومية تسمى "اتحاد مسلمي جورجيا"، بياناً موجهاً الى الرئيس الجورجي، و رئيس الوزراء، و بطريركية جورجيا، تقول في جزء منه:"ظهور مظاهر التعصب المتطرف تجاه مسلمي جورجيا في الفترة الاخيرة اصبح يأخذ اتجاهات عديدة و خطيرة, خاصة بعد الاحداث الاخيرة في "تسينتسكارو" ,فنحن لا ندعو لأعمال تخريبة و احتجاجات غير قانونية، لكننا نسعى لإثبات تواطئ السلطات المحلية في زيادة التوتر,و سياسة التخاذل و اللامبالاة من قبل رجال الامن".
اخبروني، لماذا يقومون بكل هذا؟ هل يريدون ان يواجه رئيس الوزراء المنتخب جديداً "ايفانشفيلي" حرباً اهلية طائفية ؟ لأنه كما نرى لم يبقى لسكاشفيلي وسائل سياسية مشروعة يحارب بها خصمه ,بعد ان فقد مصداقيته امام المجتمع الجورجي. فهو يسعى بكل جهده لخلق النزاعات في محاولة اخيرة منه لحل البرلمان في أبريل القادم ،بذريعة الحفاظ على السلم الأهلي - هل عرفتم الأن هدف نظام ساكاشفيلي من إشعال الفتنة الطائفية؟
فلا يمكننا الحديث عن مدى صدق ساكاشفيلي و اسفه لهذه الاحداث بحق مسلمي جورجيا و تأكيده على وجوب العيش بالحب والتسامح ، و نحن نراه يقرع طبول الفتنة مجدداً في منطقة "كفيمو كارتلي " و التي معظم سكانها من المهاجرين الأذربيجانيين المسلمين.عندما شرعت السلطات الجورجية بالتدخل المباشر في عمل قيادتها الدينية و ذلك بحجة إعادة تنظيمها،فعزلت الشيخ "فاغيف اكبيروف" من منصبه كزعيم ديني و اماماً للمسجد ،بحجة الشكاوى المتكررة بحقه من ابناء الجالية و مطالباتهم الكثيرة بعزله ،و لكن الشيخ فاغيف رفض الأمر و اعتبرها مؤامرة يراد منها زرع بذور الفتنة بين أبناء الدين الواحد ،و لكن سرعان ما تم اختيار "ميرحسين اسادوف" كزعيم ديني جديد للمجلس.و الذي لم يستطع تولي مهام منصبه الجديد بسبب رفض الشيخ فاغيف مغادرة موقعه و تسليم مهامه للرئيس الجديد.و يمكننا أن نفهم بأن الرابح الوحيد من نشر بذور الفرقة و الشقاق بين الإخوان هي السلطات الجورجية لتمكينها من إضعاف الجالية المسلمة و الحد من تأثيرها من خلال خلق نزاعات جانبية بين أعضائها .
و ايضاً دعنا لا ننسى قضية لا تقل اهمية عن كل هذه الاحداث ،الا و هي اصرار السلطات الجورجية على التباطىء في ملف اعادة "الأتراك المسخيتينسي" المسلمين إلى وطنهم الأم " سامتسخيه دجافاخيتي" في جنوب جورجيا.وفقا للالتزامات و العهود التي قطعتها جورجيا على نفسها بناءً على توصيات البرلمان الاوروبي بضرورة إعادتهم إلى وطنهم الأم .و الذي كان يتوجب على جورجيا الانتهاء من العملية بشكل كامل في نهاية عام 2012. و لكن وفقاً للمعلومات الواردة من وزارة شؤون اللاجئين جورجيا بأنها لم تنجز سوى 5841 معاملة من اصل 124.789 طلب مقدم.و ذكرت منظمة "Amnesty International" في تقريرها السنوي و على لسان الناشط في حقوق الإنسان "ايميل أديلخانوف" بأن الاوراق و المستندات التي يجب على المهاجر تقديمها لطلب العودة لوطنه هي اقرب للمستحيل من الواقع و اشبه بالتعجيزية على حد وصفه،غير تكلفتها المادية الباهظة نسبياً،و التي يعجز الكثيرون عن دفعها نظراً لفقر حالهم و بعد المسافة بين مناطق سكنهم و مكان التقديم و الذي يضيف اعباءً مالية غير قادرين على تحملها.فجورجيا بتصرفاتها هذه تريد قتل الاحلام و الامنيات في مهدها لمهجرين عانوا و ما زالوا يعانون و لا يريدون سوى العدل من تاريخ ظلمهم.
فالسلطات الجورجية كذبت و ما زالت تكذب على العالم و ها هو رئيسها ساكاشفيلي في مؤتمر لحزبه عقد في 23 ديسمبر 2012 يقول"أنا إنسان مسيحي و ملتزم و أؤمن بالمسيح،و استطيع القول بأنني أصلي للرب كل يوم،و لكن يستحيل علي أن افكر مجرد تفكير بأن اسلب من مسلمي جورجيا حريتهم و حقوقهم الدينية "
ساكاشفيلي يكذب، والجميع يعرف ذلك. و ليس من الصعب معرفة الفرق بين الكلمات والأفعال في السياسة، فكلما زادت المسافة بين هذين المفهومين زاد التناقض و الكذب،كما قال الرئيس الامريكي الراحل و احد اهم
رموزهم الوطنية "أبراهام لينكولن": "يمكنك خداع بعض الناس كل الوقت، وكل الناس بعض الوقت، ولكنك لا تستطيع ان تخدع كل الناس كل الوقت".
السيد ساكاشفيلي، كما أعتقد، أثبت عكس ذلك ،ففي جورجيا الجوانب الوطنية والسياسية متشابكة. والدين هو مجرد أداة لتحقيق الاهداف السياسية الضيقة و الآنية .فساكاشفيلي استخدم بمهارة عامل التوتر و اسلوب خلق الصدامات الداخلية لتعزيز موقفه في محاولة منه لإضعاف المعارضة و كبح جماح رئيس الوزراء المنتخب "ايفانشيفيلي ".ففي كلمته أمام اللجنة التأسيسية لحزبه بعد خسارتهم للانتخابات قال: "معركتنا الرئيسية لم تأتي بعد، و واهم من يعتقد بأن المعركة انتهت و قد خسرناها،اعلم أن الوقوع أمام الخصم في الحلبة ليس بالأمر السهل و لكنها ليست الجولة الأخيرة يا أعزائي ".
فمن الواضح الآن بأن مهمة تصعيد الأزمة السياسية في جورجيا و مهما كانت النتائج أصبحت الهدف الأول لدى ساكاشفيلي و فريقه.نرى جميعاً بأن ساكاشفيلي لا يريد الانسحاب من المسرح بهدوء و غريمه لن يترك له الساحة ليعيث به خراباً،و اعتقد بأن قضية مسلمي جورجيا ستصبح ذريعة لتصفية الخصومات السياسية و ذريعة لسلب حريتهم و اغتصاب حقوقهم كمواطنين بعيداً عن الصحافة و الإعلام حتى لا يأتي أحدهم و يتهمهم بالعنصرية أو بإضطهاد الأقليات ،كل هذا في سبيل الحصول على الكرسي و بعض الحسابات البنكية ،و عندما يحين الوقت و سيكون ساكاشفيلي قد كشف كل أوراق لعبته،حينها سيصعب علينا إحصاء عدد ضحاياها و سيتذكرها فقط من أكتوى بنارها.



محمد عودة - ماجستير علاقات دولية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات